للأب القمص تادرس يعقوب ملطي
(بسبب الحب أخذ جسدنا وتراءف علينا ليس هناك سبب آخر لتجسده!)القديس يوحنا ذهبي الفم
الإنسان والحب
جبل الإنسان مخلوًقا محبا، لا يقدر أن يتذوق الحياة ولا أن يمارس إنسانيته خارج دائرة الحب. يريد
أن يكون محبوبا، لو أمكن من العالم كله! ويشتاق- بين الحين والآخر- لو اتسع قلبه ليحمل المسكونة كلها في
قلبه بالحب!
هذه ليست طبيعتي وطبيعتك، ولا هي أحاسيس عابرة تجتاز نفسي ونفسك، لكنها هي خبرة "الحياة"،
خبرة الإنسان عبر كل العصور، وتحت كل الظروف.
قد يبدو الإنسان جادا أو منهمكا في مسئولياته الكبرى، أو مشدودا إلى أبحاثه، أو غارًقا فى أعماله،
وقد يكون الإنسان قاسيا وعنيًفا بل وأحياًنا مجرما وقد لا يكون... لكنه وسط هذا كله تجده متعطشا للحب... يخور
أمامه سريعا ويستسلم!
لكننا نتساءل: وهل يترك الله الإنسان محتاجا إلى الحب، يتسوله من هذا أو يستجديه من تلك، بغير
شبع؟! بل وكثيرا ما يجرى وراء الصداقات والزمالات والعواطف... وللأسف غالبا ما يكتشف بعد خبرة
سنوات أن سر هذه العلاقة مع أحب إنسان لديه هو الأنانية!!!
الله حب!
إن كان الإنسان بطبعه محبا، فلأنه على مثال الله "الحب اللانهائي"... ينجذب إليه، لا ليقدم حسابا
عن أعماله، ولا ليقدم فروض الطاعة والولاء وصنوف العبادات والتذلل، ولا لينتظر مكافآت وجزاءات ولا
ليتقي غضبه... لكنه أو ً لا وقبل كل شيء يرتمي في أحضانه ويتكيء على صدره لينهل من ينابيع حبه، التي
وحدها تقدر أن تروي نفسه الظمآنة! يقول ابن سيراخ أن من يأكل منه يعود إليه جائعا، ومن يشرب منه يعود
ظمآًنا إليه! إنه ينهل من حب الله بلا حدود!
هذا الحب الإلهي ليس كلاما بل عملا، أوجد له العالم قبل خلقته لا ليشبع احتياجات جسده، بل وأيضا
لكي يتلمس حب الله العملي في الخليقة فترتوي نفسه...
جبل له حواء أيضا لكي لا يكون وحيدا، لكنه يتلمس محبة الله خلال تآنسهما معا، وهما يلهجان في
أعمال الله ويسبحانه من أجل تدابيره المملوءة حبا!
بعد السقوط، خرج "المخلوق المحب" من فردوس الحب إلى عالم مملوء وحشية، قانونه الظلم
ودستوره العنف، إذ تحول من وحدة الحب إلى انقسامات الكراهية والأنانية، كل قبيلة لا تؤمن إلا بنفسها،
تؤمن بالبقاء للأقوى والموت للأضعف!... تحول الإنسان إلى وحش كاسر لا يفترس أخاه بل ونفسه حتى
ليصل أحياًنا إلى الرغبة في الانتحار، كارها نفسه!
بمعنى آخر، خرج الإنسان من فردوس الحياة إلى عالم الموت، عوض الحب يمارس الأنانية... فإنه
وإن صادق أو زامل أو ترفق، فغالبا ما يكون لأجل نفسه لإشباع حاجاته النفسية أو الاجتماعية!يحبه حًقا، وكثيرا ما يحسب أنه لا يوجد في العالم من يستحق حبه! لقد فسدت حياته الداخلية، كما فسد العالم
المحيط به... وصار الأمر جد خطير! لقد فقد الإنسان حياته وطبيعته وبصيرته... فهل يتركه "الحب
اللانهائي" هكذا يتخبط؟!
الحب يقتحم حياتنا!
في "فردوس الحب" كان الإنسان ينعم بالحب، يحصره الله بالحب، ويفيض هو حبا نحو الله، متهللا
كلما "سمع صوت الله ماشيا في الجنة"... لم يكن محتاجا إلى وصية عن "الحب" ولا معلما يرشده ويدربه على
"الحب"... لكن كان يكفيه اللقاء الدائم مع الله، والوجود المستمر في حضرته!
أما وقد خرج الإنسان هائما في عالم الأنانية، لم يقف الله مكتوف الأيدي، بل كان يليق به أن يعلن
حبه عمليا، فأرسل إلينا وصيته "حب!"... "حب الرب إلهك... حب قريبك كنفسك".
أرسل الله الوصية أو الناموس يطالبنا بالحب، لكن الناموس كان صعبا والوصية غير قادرة على
تغيير طبيعتنا. فصار الناموس وهو مقدس كاشًفا للضعيف غير معالج له... فيقول الإنسان "لما جاءت الوصية
عاشت الخطية فمت أنا. فوجدت الوصية التي للحياة هي نفسها لي للموت. لأن الخطية وهي متخذة فرصة
بالوصية خدعتني بها وقتلتني"
هذا ما فعله الناموس، وهذا ما أكده الأنبياء، إذ جاءوا نبيا يلي نبيا من أجل تنفيذ وصية الحب...
فكشفوا العجز البشري وحاجتهم إلى من يعيد إليهم طبيعة الحب المفقودة.
الحب يتجسد!
إذ كان الإنسان موضع لذة الله وموضوع حبه كان يلزم ألا يبقى الله في سمواته يعلن حبه للإنسان
وهو منعزل عنه. لا يكفي أن يرسل إليه الوصية أو الناموس، ولا أن يبعث إليه بالأنبياء، لكن حبه ألزمه أن
يلتقي بالإنسان في عالمه... يدخل معه طريقه، ويشاركه حياته الأرضية لكي يحمله بالحب على كتفيه ويعيده
من جديد إلى "عالم الحب"، إلى الحياة السماوية!
تجسد "الحب" ليعيش بين البشر، واحدا منهم، حاملا إياهم إلى "حياة الحب" المفقودة... وكما يقول
القديس يوحنا الذهبي الفم "صار ابًنا للإنسان لكي يصير أبناء الإنسان أبناء لله". جاء يلاطف الإنسان بالحب،
يجذبه إليه، واهبا إياه طبيعة جديدة، طبيعة الحب الحقيقي التي تفرح قلب الله. "هكذا يصبح الإنسان قيثارة،
متوافقة، نغمها الروحي يسحر الله"!
بحق دعي التجسد سرا... أنه سر حب الله اللانهائي، إذ "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد
لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية".
الإله المعبود صار إنساًنا، وقابل الذبائح والتقدمات "صار كاهًنا وذبيحة"!
أعلن حبه بالعمل لا بالكلام... "فإن الله لم يجازنا عن تعدياتنا الكثيرة التي اقترفناها ضده رغم
إحساناته علينا، بل أعطانا ابنه. جعله من أجلنا خطية... تركه يدان ويموت كملعون!...
إنه يشبه ملكاً يرى لصا على وشك الإعدام فيرسل ابنه الوحيد الحبيب، ينقل عليه الموت ذاته بل
وخطأ المجرم! هذا كله من أجل خلاص المذنب ورفعه إلى كرامة عظيمة".
لقد ترنم الآباء بهذا التجسد العجيب الذي دخل إلى حياتنا ليرفعنا إلى الصداقة مع الله، والشركة مع
السمائيين، والتمتع بحياة الحب...يقول القديس غريغوريوس العجائبي "المولود من الله الآب أخذ لنفسه من العذراء جسدا حتى يدين الخطية في الجسد، ويهزم المجرب، معلًنا بداية القيامة وتأسيس الحياة الأبدية ونشأة الصداقة بين الناسوالآب".
ويقول مار إفرآم السرياني "المجد لذاك الذي نظر إلينا إننا قبلنا التشبه بالوحوش في هياجنا وجشعنا،
فنزل إلينا وصار واحدا منا، حتى نصير نحن سمائيين".
ويقول مار يعقوب السروجي: "الحب جذبك لتأتي إلى بلدنا من أجلنا... حبك خلطك معنا بالجنس،
لنرتل لك! صرت معنا ومنا، إذ أنت ربنا. هوذا عمانوئيل معنا، بجوارنا...".
لنحب... بالإيمان والروح والعمل!
"هو أحبنا أولا..."
لقد بادرنا بالحب لكي يجذبنا إليه، لا بالعاطفة والمشاعر ولا بالكلام والوصية، إنما فوق الكل بالعمل
والبذل! تجسد وتأنس، تألم وصلب، مات ودفن، قام ليقيمنا معه حاملين "جدة الحياة".
يفتح ذراعيه بالحب نحو العالم... يدعو الجميع، ويلح في الدعوة، مؤكدا "أن كل الفضل هنا لصاحب
الدعوة، وما على المدعوين إلا الطاعة"... يريد أن يبرق في كل نفس ويدعوها باسمها كما في طريقه إلى
دمشق لكي يخلق من شاول المقاوم بولسا المحب قالا "لستم أنتم اخترتمونى بل أنا اخترتكم" قدم عملا وبذلا،
ولا يزال يقدم الدعوة الشخصية لكل أحد، لكى من يؤمن به يتجاوب معه بالحب العملي، فيرتمي في أحضانه
بالنعمة الإلهية لينعم بالخلاص...
الخلاص هو التلاقي بين حب الله العملي وحب الإنسان الإيماني العملي. هو خروج من الذات
بالروح القدس لكي يدخل الإنسان الحياة الجديدة في المسيح يسوع، كحياة إنجيلية عملية، ممارسة حب مع
ذاك الذي يحبها... هذا التلاقي يتم بالطبيعة الجديدة التي ننالها بالمعمودية، بالروح القدس الذي ننعم به في
الميرون... هذا ما أكده الكتاب قا ئلا "من آمن واعتمد خلص...". لنؤمن ولنعتمد، حاملين الروح القدس فينا،
الذي وحده يقدر أن يدخل بنا ونحن في كامل حريتنا إلى "الحياة الإلهية"... "إذ لا نقدر أن نجري في طريق
الله إلا محمولين على أجنحة الروح".
لابد للتنعم بفاعلية سر التجسد أن نقبل روحه القدوس عوًنا وسندا ينطلق بنا إليه، لنعيش في شركة
مع الإله المتجسد، نمارس حياته الفاضلة فينا. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
"بمعونة الله نحن نفعل الخير الذي نعمله"،
"ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما أنه ليس أضعف من الذي يحرم منه"،
"لنكن أقوى من الجميع، ممتلئين ببولس وبطرس ويعقوب ويوحنا، فإن غاب عنا العون الإلهي لا
نقدر أن نقاوم أتفه إغراء".
تلاقي عملي
الله في حبه بذل ابنه بإرادته الكاملة، إرادة محبة عاملة، ونحن أيضا يلزمنا أن نلتقي مع هذه الإرادة
بإرادة كاملة، إرادة حب باذل... هذا هو سر خلاصنا! أحبنا أو ً لا بإرادته ونزوله إلينا، ونحن به نحبه بقبوله
فينا بالإيمان العملي!
بمعنى آخر لا يلزمنا الله بالخلاص قسرا، كما لا يطلب منا إيماًنا سلبيا بل عام ً لا... هذا ما أكده
القديس يوحنا الذهبي الفم، إذ أقتطف القليل من أقواله في هذا الشأن.أوجد الخالق طبيعتنا سيدة نفسها. في رحمته يهبنا معونته على الدوام، وهو مدرك ما هو مختبيء
في أعماق القلب. إنه يرجونا وينصحنا وينهانا، محذرا إيانا من تصرفاتنا الشريرة، لكنه لا يفرض علينا شيئًا
قسرا. يعرض الأدوية المناسبة، تاركا الأمر كله لقرار المريض نفسه".
"نحن سادة، نستطيع أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر أو للبر".
"الله لا يريد أن تكون العطية بكاملها من جانبه، لكنه يريد أن تدخل فيها الصلاة حتى لا يصير العبد
بغير مكافأة.
"الله يريد أن يظهر العبد وكأنه قد ساهم في شيء فلا يسقط في الخجل".
"النعمة دائما مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيدنا نفسا ساهرة وملتهبة
حبا يسكب عليها بفيض غناه، وبغزارة تفوق كل طلبته".
"الله يدعو ويجذب إلى الحق الذين حتى في أخطائهم يطلبون طريق الحق".
"إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب".
أنا لا أسحب أحدا بالقوة ولا بالعنف، لكن إن كان أحد ممتلئًا إرادة حسنة ومشتع ً لا بالرغبة، هذا أنا
أدعوه".
"يلزمنا أولا أن نصنع ما نستطيع، فيعمل الله فينا".
"كيف صار بولس بولسا؟ من نفسه أم من الله؟ من الله، لأنه من نفسه!".
"لا يغضبنا الله ولا نعمة الروح تلزم إرادتنا، إنما ينادينا الله وينتظر لكي نتقدم بملء حريتنا. فإذا ما
اقتربنا يعطينا كل عونه".
"أي شعلة يشعلها الروح في داخلنا، نستطيع نحن إن أردنا أن نوهجها أكثر فأكثر، وإن لم نرد نفقدها
للحال".
"الله في حبه قد أعدنا من قبل (النعمة) للخلاص. هذا الخلاص نبلغه لا بمجهودنا ولا بأعمالنا
الصالحة، بل بالنعمة. ولكن ليس بها فقط بل بالفضائل أيضا. لأنه لو كان كل شيء من قبل النعمة وحدها
لخلص جميعنا. ولو كان كل شيء بفضيلتنا الشخصية فما فائدة شفاعة المسيح وتجسده؟!
بالحقيقة نحن مخلصون بالنعمة وحدها ولا بالفضيلة وحدها بل بالاثنين معا".
"الله يطلب منا حجة صغيرة حتى يقوم هو بكل العمل".
بالنعمة أنتم مخلصون!
إن كان القديس يوحنا الذهبي الفم يؤكد أهمية الجهاد لكنه يخشى أن نسقط في الكبرياء، فنظن أننا
بجهادنا الشخصي ندخل الحياة الإنجيلية، بتقوانا أو بأعمالنا الصالحة، لذلك ينصحنا قائلا:
"لا شيء يجعل أعمالنا الصالحة عديمة الفائدة وباطلة إلا عندما نتذكرها ظانين أننا فعلنا الحسنى".
"أعترف أنك تخلص بالنعمة، لكي تشعر بأن الله دائن لك، ليس من أجل أعمالك الصالحة بل من أجل
أحاسيسك النبيلة... فإن أسندناها لله، تكون مكافأتنا عن اتضاعنا أعظم من مكافأتنا عن الأعمال نفسها".
أخيرا، لقد أحبك الله ونزل إليك، لكي يرفعك بنعمته إليه... إنه ينتظر على الدوام لقاءك، لكي تعلن
له حبك وتقبله في حياتك.