(26) المسيحى والتسامح والغفران
للأب القمص أفرايم الأنبا بيشوى
حاجتنا الى التسامح والغفران ...
التسامح والغفران علاج للتعصب والكراهية .. وسط عالم يسوده الكراهية والعنف والحقد ومحاولات الايذاء أو السيطرة على الغير أو استغلالهم أو اذلالهم ، ومع ما نشاهده من انتشار الحروب والقلاقل وقتل الابرياء تحت مختلف الحجج ولما نراه من التمييز الدينى والطبقى والعرقى والجنسى فان مجتمعاتنا المعاصرة فى حاجة الى روح التسامح والمغفرة التى تنبع من حياة وتعاليم السيد المسيح الذى جال يصنع خيراً على الارض وسامح وغفر للذين اساؤا اليه وحتى الذين صلبوه والذين اخذوا يصيحون حوله مطالبين له بحكم الموت على الصليب، نجده ينظر اليهم فى شفقة طالبا من الاب السماوى لهم الغفران { فقال يسوع يا ابتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون } (لو 23 : 34).
ان دائرة العنف والكراهية لن يوقفها الفعل العنيف ورده فالنار لا تطفأ بالزيت بل بالماء هكذا العنف والكراهية تحتاج الى المحبة والاخاء الانسانى والحكمة والايجابية وروح المساواة وسيادة القانون لكى ما يعود من أعمتهم الكراهية الى رشدهم وضميرهم ويتقدم المجتمع ويسير فى طريق السلام والمصالحة من أجل هذا علمنا السيد المسيح قائلا { سمعتم انه قيل عين بعين وسن بسن. واما انا فاقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر ايضا. ومن اراد ان يخاصمك وياخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا. ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين. من سالك فاعطه ومن اراد ان يقترض منك فلا ترده . سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. واما انا فاقول لكم احبوا اعداءكم باركوا لاعنيكم احسنوا الى مبغضيكم وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم.لكي تكونوا ابناء ابيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين. لانه ان احببتم الذين يحبونكم فاي اجر لكم اليس العشارون ايضا يفعلون ذلك. وان سلمتم على اخوتكم فقط فاي فضل تصنعون اليس العشارون ايضا يفعلون هكذا.فكونوا انتم كاملين كما ان اباكم الذي في السماوات هو كامل} مت 38:5-48.
أن التسامح والمغفرة من الانسان يجب ان لا يكونا مدعاة للاشرار فى التمادى فى ظلمهم بل لاعادتهم الى طريق الصواب ولهذا يجب ان يكفل القانون والنظام المحلى والدولى العدالة والمساواة حتى لا نجد أنفسنا نسير وفقاً لشريعة الغاب التى يأكل فيها القوى أخيه الضعيف وتنتشر الفوضى والمظالم فى المجتمع .
التسامح والغفران ثمرة المحبة ... التسامح هو الصفح والغفران مع ترك ونسيان الاساءة للمخطئين ومغفرة زلاتهم نحونا وذلك بدافع المحبة التى تصبر وتحتمل وتبذل من أجل خلاص القريب ومن اجل ربح النفس ومن أجل سلام الانسان الداخلى فالكراهية وباء ومرض يؤثر على من يحملها ويجعله قلقا لا يجد سلاماَ لا فى علاقته بالله ولا مع الغير ويحيا فى صراع داخلى . وليس معنى ذلك ان لا نعاتب أو نتغاضى عن حقوقنا فى أحساس بالظلم أو الضعف فالقوى هو الذى يصفح ويسامح، والعفو عند المقدرة هو من شيم الاقوياء { وان اخطا اليك اخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما ان سمع منك فقد ربحت اخاك. وان لم يسمع فخذ معك ايضا واحدا او اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين او ثلاثة. وان لم يسمع منهم فقل للكنيسة وان لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار} مت 15:18-17. وليس معنى ان يكون كالوثنى او العشار ان نكرهه بل ان نصلى من اجل اصلاحه وان تحاشيا العلاقة به من اجل سلام النفس وعدم اذدياد الخلاف او الخصام .
كما يجب علينا متى أخطائنا تجاه احد ان نسارع الى مصالحته لكى ما يقبل الله صلواتنا وتقدماتنا { فان قدمت قربانك الى المذبح وهناك تذكرت ان لاخيك شيئا عليك. فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب اولا اصطلح مع اخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك. كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق لئلا يسلمك الخصم الى القاضي ويسلمك القاضي الى الشرطي فتلقى في السجن. الحق اقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الاخير} مت 23:5-26.
التشبه بغفران الله غير المحدود ... سأل القديس بطرس السيد المسيح قائلاً هل الى سبع مرات يخطئ الىٌ اخى واسامحه فاجاب المخلص لا بل الى سبعين مرة فى سبعه مرات اى الى عدد غير محدود لان الله عالم بضعف البشر وان كان ذلك ليس فى مقدورنا لكنه مستطاع بالصلاة ومعونة الله ، ولنتذكر كم مرة فى حياتنا نخطئ الى الله ويسامحنا ويستر خطايانا ويغفرها عندما نرجع اليه ولهذا { ان كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس }(رو 12 : 18). وما ليس فى طاقتنا نصلى لله ان يجعله ممكن لدينا ويهبنا الطاقة والقوة والحكمة لصنعه { حينئذ تقدم اليه بطرس وقال يا رب كم مرة يخطئ الي اخي وانا اغفر له هل الى سبع مرات. قال له يسوع لا اقول لك الى سبع مرات بل الى سبعين مرة سبع مرات. لذلك يشبه ملكوت السماوات انسانا ملكا اراد ان يحاسب عبيده. فلما ابتدا في المحاسبة قدم اليه واحد مديون بعشرة الاف وزنة. واذ لم يكن له ما يوفي امر سيده ان يباع هو وامراته واولاده وكل ما له ويوفي الدين. فخر العبد وسجد له قائلا يا سيد تمهل علي فاوفيك الجميع. فتحنن سيد ذلك العبد واطلقه و ترك له الدين. ولما خرج ذلك العبد وجد واحدا من العبيد رفقائه كان مديونا له بمئة دينار فامسكه واخذ بعنقه قائلا اوفني ما لي عليك. فخر العبد رفيقه على قدميه وطلب اليه قائلا تمهل علي فاوفيك الجميع. فلم يرد بل مضى والقاه في سجن حتى يوفي الدين. فلما راى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدا واتوا وقصوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذ سيده وقال له ايها العبد الشرير كل ذلك الدين تركته لك لانك طلبت الي. افما كان ينبغي انك انت ايضا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك انا. وغضب سيده وسلمه الى المعذبين حتى يوفي كل ما كان له عليه. فهكذا ابي السماوي يفعل بكم ان لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لاخيه زلاته}مت 21:18-35
الغفران والتسامح والسلام الداخلى ... هل أنت واحد من الذين تأذَّوْا في مشاعرهم واعمالهم وحياتهم على أيدي الآخرين؟ وهل دخلتْ الكراهية إلى قلبك وعقلك وفكرك أو تنتابك مشاعر الغضب، أو الغيظ ، أو العداوة، والمرارة، والرغبة في الانتقام؟ وهل امتلأت نفسك بروح عدم المغفرة؟ إن عدم المغفرة يمكن أن يتحوَّل داخلك إلى ذئب مختفي. إنه قادر أن يجعلك سجيناً داخل نفسك. ويؤذيك فحينما تُعشِّش روح عدم المغفرة داخلنا، فهو لن تؤذي الذي أخطأ في حقك الا حين تعمل على ايذائه ؛ أما أنت فستظل ممسوكاً ومُقيَّداً بما تملَّك على أفكارك وقلبك وتصرفاتك وكلامك. إن تلك المشاعر السلبية تنخر داخل الانسان مثل سرطان سام، وإذا بنا نكتشف أننا مربوطين بالعداوة، وقد فارقنا السلام القلبي الداخلي. ولكن حالما نعزم على المغفرة تشرق نعمة المسيح الغافرة داخل قلوبنا ونشعر بالسلام . لأن الروح القدس الوديع الهادئ يهبنا المحبة الغافرة والتعزية والرجاء والصبر والقوة { ليس ذلك فقط بل نفتخر ايضا في الضيقات عالمين ان الضيق ينشئ صبرا. والصبر تزكية والتزكية رجاء. والرجاء لا يخزي لان محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا} (رو 5 :3- 5) . ولهذا نصلى من أجل المسيئين الينا ومن اجل ان ينزع الله عنا كل مرارة وغضب وتحزب ويحل سلام الله فينا { وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وافكاركم في المسيح يسوع} (في 4 : 7).
التسامح الغفران وعدم الادانة ... اننا نحتاج الى الغفران ونطلبه من الله ولهذا يجب ان لا ندين ليكون لنا سلام مع الله والناس ولا ندان من الله ويغفر لنا خطايانا { لا تدينوا فلا تدانوا لا تقضوا على احد فلا يقضى عليكم اغفروا يغفر لكم }(لو 6 : 37). اننا نتعلم من محبة الله الغافرة والمحررة كيف نحب ونغفر ويكون لنا العين البسيطة التى تستر ضعفات الغير لذلك يقول الرسول بطرس { ولكن قبل كل شئٍ لتكن محبَّتكم بعضكم لبعضٍ شديدةً لأن المحبَّة تستر كثرةً من الخطايا} وراينا كيف غفر الله للمرأة الخاطئة لانها تابت وقدمت مشاعر محبة صادقة كما بكت السيد المسيح سمعان الفريسى لقلة محبته وادانته للغير { وسأَلهُ واحدٌ من الفريسيين ان يأكل معهُ فدخل بيت الفريسي واتكأَ. وإذا امرأَة في المدينة كانت خاطئَة إذ علمت أنه متكَّئٌ في بيت الفريسي جاءَت بقارورة طيبٍ ووقفت عند قدميهِ من ورائهِ باكيةٍ وابتدأَت تبلُّ قدميهِ بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبّل قدميهِ وتدهنهما بالطيب. فلَمَّا رأَى الفريسي الذي دعاهُ ذلك تكلَّم في نفسهِ قائلا لو كان هذا نبيَّاً لعلم مَنْ هذه المرأة التي لمستهُ وما حالها. إنها خاطئَة. فأجاب يسوع وقال لهُ يا سمعان عندي كلمة أقولها لك. فقال قُلْ يا معلّم. كان لمداينٍ مديونان. على الواحد خمسمائَة دينارٍ وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعاً. فقُلْ. أيُّهما يكون أكثر حبَّاً لهُ. فأجاب سمعان وقال أظنُّ الذي سامحهُ بالأكثر. فقال لهُ بالصواب حكمت. ثم التفتَ إلى المرأَة وقال لسمعان أَتنظر هذه المرأَة. إني دخلت بيتك وماءً لرجليَّ لم تُعطِ. وأمَّا هي فقد غسلت رجليَّ بالدموع ومَسَحتهما بشعر رأسها. قُبلةً لم تقبّلني. وأمَّا هي فمنذ دخلت لم تكفّ عن تقبيل رجليَّ. بزيتٍ لم تدهن رأْسي. وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليَّ. من أجل ذلك أقول لك قد غُفِرَت خطاياها الكثيرة لأنها أحبَّت كثيراً. والذي يُغفَر لهُ قليلٌ يحبُّ قليلاً. ثم قال لها مغفورة لكِ خطاياكِ… إيمانكِ قد خلَّصكِ. اذهبي بسلامٍ} لو 36:7-50 . هكذا وبخ الله الفريسى الذى ادان المرأة الخاطئة وغفر للمرأة لانها تابت وأحبت ولم تدين غيرها فمن منا يترك ميته لكى يبكى على ميت غيره . لهذا قال الأنبا يؤانس القصير مرة لقد رذلنا الحِمْل الخفيف، وهو أن ندين أنفسنا؛ واخترنا الحِمْل الثقيل الذي هو تبرير أنفسنا وإدانة الآخرين .
السيد المسيح والتسامح والغفران ....
التسامح فى حياة وتعاليم المخلص.. التسامح هو عمل ايجابى لحلول السلام وتدريب الانسان على قمع الغرائز الحيوانية والتخلص من روح العدوانية وسيطرة على النفس. للارتقاء بالسلوك الانسانى الى مستوى الكمال الالهى الذي لا يجازى عن الشر بالشر بل يترك وينسى من اجل الاصلاح .ان التسامح قوة لضبط النفس وليس ضعف لان القوى هو من ينتصر على نفسه وليس على خصمه وبهذا يربح نفسه وخصمه وينتزع من الخصم الشر والحقد ويحوله الى صديق { طوبى لصانعي السلام لانهم ابناء الله يدعون (مت 5 : 9).
فى تعامل السيد المسيح مع الناس ضرب لنا اروع الامثلة فى التسامح معلما ايانا ان نقتفى أثره . اراد مرة ان يدخل قرية للسامريين وكان بينهم عداوة مع اليهود فرفضه أهلها {وحين تمت الايام لارتفاعه ثبت وجهه لينطلق الى اورشليم. وارسل امام وجهه رسلا فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له. فلم يقبلوه لان وجهه كان متجها نحو اورشليم. فلما راى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا يا رب اتريد ان نقول ان تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل ايليا ايضا. فالتفت وانتهرهما وقال لستما تعلمان من اي روح انتما.لان ابن الانسان لم يات ليهلك انفس الناس بل ليخلص فمضوا الى قرية اخرى} لو 51:9-56. لقد قاوم السيد روح الانتقام لدى تلاميذه وعلمهم انه لا يريد هلاك الناس بل خلاصهم .وعندما أساء اهل الناصرة الى السيد المسيح وارادو ايذائه وطرحه من أعلى الجبل رايناه يرد بقوله { ليس نبي بلا كرامة الا في وطنه وفي بيته} (مت 13 : 57).وتركهم فى هدوء ومضى .
وعندما جاءت جماعة الاشرار للقبض عليه لم ينتقم منهم بل حتى عندما تقدم بطرس وضرب بالسيف العبد وقطع اذنه قام السيد المسيح باعادتها سليمة مرة اخرى وامر بطرس برد السيف الى غمده قائلا { رد سيفك الى مكانه لان كل الذين ياخذون السيف بالسيف يهلكون. اتظن اني لا استطيع الان ان اطلب الى ابي فيقدم لي اكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة. فكيف تكمل الكتب انه هكذا ينبغي ان يكون. في تلك الساعة قال يسوع للجموع كانه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتاخذوني كل يوم كنت اجلس معكم اعلم في الهيكل ولم تمسكوني} مت 52:26-55.
لقد تعلم الرسل من المعلم الصالح واخذوا ينادوا بتعاليمه { ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله ايضا في المسيح} أف 31:4-32.
غفران الله ورحمته .. ان الله اله غفور رحيم { حافظ الاحسان الى الوف غافر الاثم والمعصية والخطية }(خر 34 : 7). تغنى برحمته الانبياء {من هو اله مثلك غافر الاثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه لا يحفظ الى الابد غضبه فانه يسر بالرافة} (مي 7 : 18). والانسان الخاطى الذى يتوب ويرجع الى الله يبرئه الله من دينه بالصفح عنه { اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك وكما غفرت لهذا الشعب من مصر الى ههنا} عدد19:14. (بالعبرية سالاح). وهذا الإبراء وهو فعال لدرجة أن الله لا يعود ينظر بعد إلى الخطيئة، وكأنه قد نبذها وراء ظهره (إشعيا 38: 17)، وكفر عنها وأزيلت { فطار الي واحد من السرافيم وبيده جمرة قد اخذها بملقط من على المذبح. ومس بها فمي وقال ان هذه قد مست شفتيك فانتزع اثمك وكفر عن خطيتك} أش 6:6-7. وإذ يستخدم المسيح هذه المصطلحات، يؤكد أن الإبراء مجاني، فالمديون عاجز عن الوفاء. وتنصبّ الكرازة المسيحية الأولى في الوقت نفسه على الايمان بالمسيح والتوبة وغفران الخطايا { وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي ان المسيح يتالم ويقوم من الاموات في اليوم الثالث.وان يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الامم مبتدا من اورشليم. وانتم شهود لذلك} لو46:24-48 . وهكذا دعا الرسل الى الايمان كما اوصاهم السيد المسيح { لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات الى نور ومن سلطان الشيطان الى الله حتى ينالوا بالايمان بي غفران الخطايا ونصيبا مع المقدسين} (اع 26 : 18) . { فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس} (اع 2 : 38).وهناك مفردات أخرى، مثل طهر، غسلَ، برر، تظهر في كتابات الرسل التي تلحّ على الأوجه الإيجابية من الغفران القائمة على المصالحة مع الله .
وانا كان الانسان بطبعه العتيق يخطئ {نحن شعب قساة الرقاب. لكن اغفر ذنبنا وخطيئتنا واتخذنا ملكاً لك} (خر: 6- 9). فان قلب الله ليس كقلب الإنسان، والقدوس لا يحب أن يهلك (هو 11: 8-9). إن الله أبعد من أن يشاء موت المنافق، لكنه يريد توبته (حز 18: 23)، لكى يغدق عليه غفرانه لأن {طرقه ليست كطرقنا، وأفكاره تعلو عن أفكارنا، كما تعلو السماوات عن الأرض} (إش 55: 7-9) . والله هو الآب الذي يرأف بجميع أبنائه (مز 103: 3 و8-14). ويتوسل إليه شعبه بصفته {الإله الغفور} (نح 9: 17)، وإله الرحمة (دانيال 9: 9)، المستعدّ دوماً أن يرجع عن الشر الذي هدًد به الخاطئ، اذ يرجع ويتوب (يؤ 2: 13). يونان النبى - الذي يمثّل النزعة القومية في إسرائيل- قد "كمد قلبه "، إذ رأى هذا الغفران مقدماً لجميع الناس (يون 3: 10، 4: 2). وبعكس ذلك، يشهد كتاب الحكمة بالله ويسبَحه لأنه يحب كل الذين خلقهم ويشفق على الجميع، ويتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا ويوبّخهم شيئاً فشيئاً مذكراً إياهم بما أخطأوا لكي يؤمنوا به فهو يبين هكذا أن القدير الذي يتميَز بالمغفرة .
السيد المسيح والغفران ... دعا السيد المسيح الى التوبة والغفران لكل من هم في حاجة إليها { فاجاب يسوع وقال لهم لا يحتاج الاصحاء الى طبيب بل المرضى. لم ات لادعو ابرارا بل خطاة الى التوبة. } لو 31:5-32. وهو يحثنا على التوبة والرجوع { فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت اذ هو ايضا ابن ابراهيم.لان ابن الانسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك} (لو19: 9- 10) بإعلانه أن الله هو أب، تقوم مسرته في الصفح عن الزلات { اقول لكم انه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب اكثر من تسعة و تسعين بارا لا يحتاجون الى توبة } (لو 15-7)، ومشيئته في أن لا يدع أحدا يهلك (متى 18: 12-14) . ولا يكتفي يسوع بإعلان هذا الغفران الذي يقبله المؤمن المتواضع بينما يرفضه الإنسان المتكبر (لو 7: 47- 50، 18: 9- 14) " بل هو يمارس منح الغفران ويستشهد بأعماله أنه يملك هذا السلطان الذى هو لله وحده (مر 2 : 5- 11 ). لقد توّج المسيح عمله بطلبه الغفران من الاب السماوى لصالبيه وبسفك دمه لغفران الخطايا (متى 26: 28). وهو يبرّر الجموع بحمله خطاياهم في جسده (1 بط2: 24 ، إش 53: 11- 12)، لأنه الحمل الذي يرفع خطايا العالم (يو 1 : 29) فبدمه نتطهَر، ونغتسل من خطايانا{ ان اعترفنا بخطايانا فهو امين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل اثم} 1يو 9:1.
الصفح عن الإهانات..
منذ العهد القديم، لم تقتصر الشريعة فقط على وضع حدّ للانتقام بسنّة العين بالعين (خر 21: 23- 25)، ولكنها أيضاً تنهي عن بغض الأخ لأخيه، كما أنها تحرّم الانتقام والحقد نحو القريب (لا 19: 17- 18). ذكر الكتاب الرابطة التي تربط بين غفران الإنسان لأخيه وبين الغفران الذي يلتمسه الإنسان من الله { من انتقم يدركه الانتقام من لدن الرب ويترقب الرب خطاياه. اغفر لقريبك ظلمه لك فاذا تضرعت تمحى خطاياك. ايحقد انسان على انسان ثم يلتمس من الرب الشفاء. ام لا يرحم انسانا مثله ثم يستغفر عن خطاياه. ان امسك الحقد وهو بشر فمن يكفر خطاياه} سير1:28-5. ينبغي أن نغفر لأخينا. ويوضَح المثل الذي ضربه المسيح عن الغريم القاسي (متى 18: 23- 35) مشدداً على هذه الحقيقة { فانه ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم ايضا ابوكم السماوي. وان لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم ابوكم ايضا زلاتكم. (متى 6: 14- 15)، ولكي لا ننسى ذلك طلب منّا السيد أن نردّدها كل يوم في الصلاة الربانية، إذ ينبغي لنا أن نكون في حال تمكّننا من القول إننا نغفر. وبهذا الإقرار الذي ترتبط به طلبتنا، بكون صفحنا لأخوتنا شرطاً لطلب الغفران الإلهي (لوقا 11: 4)، ومرة أخرى، بلفظ "كما" الذي يحدد مقياس هذا الغفران (متى 6: 12). بل يذهب إلى ما هو أبعد من هذا اذ يقدم لنا مثلاً أعلى للرحمة { بل احبوا اعداءكم واحسنوا واقرضوا وانتم لا ترجون شيئا فيكون اجركم عظيما وتكونوا بني العلي فانه منعم على غير الشاكرين والاشرار.فكونوا رحماء كما ان اباكم ايضا رحيم} (لوقا 6: 35- 36) ان الذين صار الله أباً لهم عليهم أن يقتدوا به حتى يكونوا أبناءه حقاً (متى 5: 43- 45 و48). فالغفران ليس شرطاً سابقاً للحياة الجديدة فقط ، بل هو ركن من أركانها الأساسية. ولذلك يفرض يسوع على بطرس ألا يمل من الغفران، على عكس ما يفعل الخاطئ الذي يصل إلى تجاوز كلّ حد في انتقامه (مت 18: 21- 22،)، واقتداء بالرب (لو 3: 34).لقد أستشهد القديس استفانوس وهو يغفر لراجميه (أعمال 7: 60). وحتى يتمثل المسيحي بمعلمه في مقاومة الشر بالخير{ لا تنتقموا لانفسكم ايها الاحباء بل اعطوا مكانا للغضب لانه مكتوب لي النقمة انا اجازي يقول الرب. فان جاع عدوك فاطعمه وان عطش فاسقه لانك ان فعلت هذا تجمع جمر نار على راسه. لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير} (رو 19:12- 21)، ، يجب علينا أن نغفر دائماً، ونغفر بدافع المحبة أسوة بالمسيح { محتملين بعضكم بعضا ومسامحين بعضكم بعضا ان كان لاحد على احد شكوى كما غفر لكم المسيح هكذا انتم ايضا} (كو 3: 13) .
صفات التسامح والغفران
من كل القلب: يقول البعض أنا مستعد أن أصفح عن كل أخطاء خصمي، ولكن بعد فترة وجيزة أو بمجرد أن يخطىء إليه أخوه يتذكَّر كل الماضي و يبدأ بشنّ حرباً جديدة عليه. ليست هذه المسامحة المقصودة. ولكن كما قال السيد الرب بأنه لا يعود يذكر خطاياهم فيما بعد { انا انا هو الماحي ذنوبك لاجل نفسي وخطاياك لا اذكرها }(اش 43 : 25) .إذاً عليك أن تطرح كل خطايا أخيك في أعماق النسيان، وتنزعها من كل قلبك، و تذكر وصية المسيح الثمينة {لأننا نحن أيضاً نغفر لكل من يخطا إلينا}(لو 11: 4).
عن كل الأخطاء.. ربما تقول انا أسامح أخي باستثناء خطية معينة لا أنساها ما حييت. اسمع قول المسيح الجميل {بل إلى سبعين مرة سبع مرات} فإن كنت لا تستطيع أن تسامح أخاك، كيف تطلب من الله أن يصفح لك عن كل آثامك وخطاياك. فلنتذكر قول الرسول بولس إلى اهل كولوسي 2: 13 مشيراً إلى عمل المسيح على الصليب {مسامحاً لكم بجميع الخطايا}.
الغفران يشمل الكل .. أننا اعتدتنا أن نسامح الذي يسيء إلينا بشرط أن يكون قريبنا أو صديقنا فقط. من لكن يجب ان لا نكون متعصبين، بل ان نتبع تعاليم السيد المسيح ونسمعه وهو يكلمنا {اغفروا يُغفر لكم} (لو 6: 37). و أيضاً {إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يَغفر لكم} (مت 6: 15). لم يخص الإنجيل فئة معينة الناس، ولكن كل الناس على سواء ـ ولو أنهم أعداء ـ كما فعل ذلك المسيح على الصليب. ويكتب الرسول بولس إلى أهل أفسس {متسامحين كما سامحكم المسيح} فإن كان الله يحب الكل ويشرق شمسه على الأبرار و الأشرار فكيف نفرّق نحن ونسامح البعض ونترك البعض الآخر؟
علامات التسامح والغفران ..
ترك الماضي: أولى علامات التسامح هي التعاون مع من أساء إليك في إنجاز العمل، ولا يمكنك ذلك إن لم تترك ما حدث و تبدأ من جديد حتي تكون الخميرة جيدة و البذرة نقية.
المحبة.. لا شك عندما تهرب البغضاء تحلّ محلها المحبة الكاملة من القلب الطاهر، و كما يقول البعض: إن أعظم محبة هي تلك التي تكون بعد التسامح. فإن كنت تشعر بالمحبة الحقيقية نحو "خصمك السابق"، فتلك علامة أكيدة للمغفرة و التسامح. فالإنسان الذي لا يحب لا يغفر للآخرين فلا يظن ذلك الإنسان إنه ينال غفراناً من الله لأن الله محبة، أما المرأة الخاطئة التى اتت الي السيد المسيح فقد عبرت عن محبة قوية لله وأحبت كثيراً فغُفرَت خطاياها الكثيرة.
الصلاة.. بمجرد أن تصفح عن أخطاء الغير تجد نفسك تذكرهم في صلواتك اليومية. ولكي تحبّهم أكثر عليك أن تصلي من أجلهم ليعطيهم الرب حكمة فتُظهر أمام الله نقاوة قلبك. ويقول الرب في سفر الخروج 35 :5 إن الذي يتقدَّم بتقدمة أمام الرب يكون سموح القلب أي قلبه نقياً طاهراً دون خصام.
بركات التسامح...
حياة الفرح... عندما يسيء إليّ إنسان و أذهب إليه و أعاتبه و أصلي من أجله، أجد نفسي ممتلئاً بفرح تام لأنني أطرح ثقلاً عن كاهلي قد ألقيته على ربي فأفرح.
حياة السلام.. كلنا يعلم أن العالم يتطاحن من أجل السلام.. و لكن هيهات. لا يحلّ السلام إلا إذا صفح كل واحد عن زلة أخيه. وإني أنصحك أن تجرب هذا و لو مرة فستجد عمق السلام الذي يملأ قلبك.
راحة الضمير... هل تعلم لماذا يعيش الكثيرين حياة القلق؟ ان كان ذلك لاسباب عده فان من اهمها لأنهم لم يتعلموا التسامح مع الآخرين، ان الله الساكن في قلوبنا يخاطبنا ويطلب منا أن نسامح فلانا عن الإساءة الموجهة منه، ولكن نرفض بشدَّة فنتحمَّل عدم راحة الضمير. ولكي نعيش براحة ضمير، وننعم بالبركات الجزيلة علينا الإصغاء إلى الصوت الذي يناجي ضميرنا ويقول " اغفر لكل من يذنب إليك"، فننال الفرح والسلام وراحة الضمير.
ان نعمة المسيح هي وحدها القادرة أن تُدخِل في قلوبنا روح التسامح والمغفرة، لأن المسيح حينما أخلى نفسه ووضع ذاته، استطاع أن يهبنا عطية الخلاص ويُطهِّر قلوبنا. فبنعمة المسيح هذه سننال الحرية والنصرة على مشاعر عدم المغفرة {تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أُريحكم} مت 11: 28. أفليست الراحة هي التي نشتاق إليها، حينما تتثقَّل قلوبنا بعذاب روح عدم المغفرة؟ {إن اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهِّرنا من كل إثم} فلماذا لا نتجرَّأ وندعو المسيح ليدخل إلى ما داخل قلوبنا؟ لذلك ها هي أمامنا الدعوة أن نُلقي بكل أحمالنا عليه، ليُريحنا.