28‏/01‏/2014

† بين التراث والمعاصرة - بقلم نيافة الأنبا موسى

بين التراث والمعاصرة


                                             بقلم نيافة الأنبا موسى

أخطر شئ أن نتوقف عند واحدة من الاثنتين، فإذا توقفنا عند التراث... تحجرنا! وإذا توقفنا عند المعاصرة... اندثرنا!
ذلك أن التراث هو الجذور، والمعاصرة هى الساق الحاملة للأوراق والثمار... فإذا توقفت الجذور عن إمداد الساق بالعصارة الحية، ضعفت الساق، وذبلت الأوراق، وانعدمت الثمار!
وبالعكس... إذا ما استوعبنا التراث، واغتذينا به، تنمو الساق، وتورق، وتزهر، وتثمر!

أولاً: التراث هو الجذور
التراث هو جذور الكنيسة.. فالتراث معناه:
1- أن نستوعب حياة الآباء القديسين، عبر تاريخ الكنيسة الطويل، كنماذج عاشت المسيحية فى عمقها، فصارت أنواراً تضئ لنا الطريقولهذا تضع الكنيسة أمامنا صور الآباء الرسل والشهداء والقديسين على "حامل الأيقونات"، ووجوههم تنظر إلينا، بينما نحن جميعاً ننظر إلى الشرق، وكأنهم يقولون لنا: "ها نحن قد وصلنا إلى قدس الأقداس، تعالوا وراءنا". وهكذا إذ نسير على"آثَارِ الْغَنَمِ" (نش1: 8) لا نضل، ولا نتوه!
2- والتراث هو ما خلفوه لنا من تقليد كنسى... سلمه الآباء الرسل للكنيسة والأجيال، وحفظناه بكل دقة.
3- وهو الشروحات الكاملة لكل أسفار الكتاب المقدس... فقد قام الآباء القديسون بشرح كل أسفار العهدين، بنعمة وحكمة، ومازال هذا التراث محتفظاً ومتاحاً.
4- والتراث أيضاً هو الشرح الممتاز لكل منعطفات الطريق الروحى، وجهادات العمر، وما يمكن أن يصادفنا من مصادمات، ومحاربات، وحيل من العدو، وغوايات خطيرة... إلخ. فالطريق لم يبدأ بنا... بل ساروا فيه قبلنا!.
5- والتراث هو ميراث العقيدة المقدسة، التى انعقدت عليها حياة آبائنا القديسين، إذ فهموها، وعاشوا على أساسها، والتزموا بها، وحاربوا من أجلها هراطقة كثيرين، حفظاً لأساسيات الخلاص، التى بدونها لا خلاص!
 فقد صارعوا مثلاً ضد "آريوس"... الذى طعن فى ألوهية السيدŸ المسيح، فإن لم يكن الرب يسوع هو الإله المتجسد، فما قيمة فدائه لنا؟ سيصير فداءً محدوداً لا يكفى سوى لشخص واحد!
 وصارعوا ضد مقدونيوس... الذى طعن فى ألوهية الروح القدس،Ÿ فكيف يخلصنا إن لم يكن هو الله؟
 وصارعوا ضد "نسطور".. الذى نادى بفصل الطبيعتين فى السيدŸ المسيح فصار الفادى "مجرد إنسان" (فى نظره هو طبعاً).
 وصارعوا ضد "أوطاخى"، الذى أذاب الناسوت فى اللاهوت، فمنŸ يكون المخلص، إذا لم يكن إنساناً كاملاً يمثلنا، ويشابهنا فى كل شئ ماخلا الخطية وحدها؟
 وصارعوا ضد "سابليوس"، الذى جعل الله أقنوما واحداً، فكيفŸ يكون الله هو الباطن، والظاهر، والفاعل؟ وكيف تكون الوحدة الثالوثية، حيث يحب الله الآب ابنه فى الروح القدس؟ ستكون – إذن – وحدة مصمتة، وهذا ضد طبيعة الثالوث القدوس، وضد الكتاب المقدس، وضد اللاهوت السليم... فالله وكلمته وروحه جوهر واحد،لكن ثلاثة أقانيم.
 وصارعوا ضد "ابوليناريوس"، الذى نفى وجود روح إنسانية فىŸ المسيح، مكتفياً باللاهوت، فصار المسيح بلا روح إنسانية، أى لم يكن إنساناً كاملاً... فكيف يمثلنا إذن؟ وكيف مات؟ لقد انفصلت نفسه من جسده، غير أن لاهوته لم ينفصل قط لا من نفسه ولا من جسده.
6- والتراث هو الطقوس المقدسة التى تسلمناها من آبائنا القديسين، حيث صار الطقس وعاءً للعقيدة، يحوى تفاصيلها لنعيشها يومياً، ثم يقدمها لنا فى ممارسة ليتورجية روحية، تشبع أرواحنا وكياننا الإنسانى كله.
أن أبسط قواعد الحياة تقول: "من كان بلا ماضٍ يستوعب دروسه، يكون بلا مستقبل ينمو فيه"... وإذا فقدت الأمم ذاكرتها التاريخية، فقدت مستقبلها أيضاً!
???
ثانياً: المعاصرة هى المستقبل
إذن، بلا تراث... لا نمو، ولا مواجهة سليمة للعصر. ولهذا كانت كنيستنا القبطية الأرثوذكسية – وستظل - كنيسة تستوعب تراثها، فتواجه عصرها، ومن أمثلة هذه المعاصرة:
1- تأسيس مكتبة الإسكندرية لمواجهة الفلسفات المعاصرة فى ذلك الوقت، وللرد على طعون الفلاسفة.
2- إضاف الآباء كلمات إلى القداس الإلهى تناسب القضايا المعاصرة، كما حدث فى عبارات "جعله واحداً مع لاهوته، بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير"... "لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين"... وهذا ليس معناه إضافة عقائد جديدة، فالعقيدة ثابتة ولا تتغير أو تتطور، ولكن الكنيسة قصدت الرد على هرطقات معاصرة حاولت الفصل بين الطبيعتين أو إلغاء أحداها، كما سبق وذكرناه وكمثال آخر نحن حالياً أضفنا فى الطلبة: "نجاحاً للطلبة، عملاً للمحتاجين"... كما أدمجنا فى كنائس المهجر أواشىالزروع والمياه والثمار معاً، لأن هذه الفصول تختلف فى المهجر عما هى فى مصر. وهذه قضايا جاءت بعد القديس باسيليوس، كاتبالقداس الباسيلى.
3- تمت ترجمة القداس إلى اللغة العربية، ثم إلى كل اللغات التى دخل إليها أقباط المهجر: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واليونانية والهولندية... إلخ.
4- يمكن استخدام "اللوح المقدس" عوضاً عن مذبح مدشن كامل... وهو حل ممتاز للأماكن التى ليس فيها كنائس بعد.
5- تطوير طقس صلاة "الخطوبة" أيام البابا كيرلس الرابع، حيث كانت "عقد املاك" يصعب فسخه، فأصبحت صلوات بسيطة يمكن معها الفسخ بسهولة عند الضرورة.
 كل ما ذكرناه كانت المعاصرة فى شرح اللاهوت، أو ممارسة? الطقوس... لكن هناك معاصرة أخرى فى "أساليب الخدمة"، مثل استخدام الانترنيت، والتواصل عبر "الفيس بوك" و "البال توك" و "اليوتيوب"... إلخ. واستخدام البريد الالكترونى ورسائل المحمول... وكذلك إنشاء قنوات فضائية التى توصل روح وتعاليم الكنيسة إلى كل أنحاء العالم وتدخل إلى كل بيت. وكذلك استخدام "السكايب"، أو "الفديو كونفيرانس"، وغير ذلك من وسائل التواصل الفعال.
 وفى وسائل الإيضاح نستخدم الـ Power Point وغير ذلك من? أساليب تعليمية حديثة، مثل "التعليم بالتعبير"، و "التعليم بالمشاركة"... إلخ.
 وفى أساليب عقد الاجتماعات نستخدم مجموعات العمل، أو الندوة،? أو المحاضرة، أو التمثيل، أوالسكتش، أوالمناظرة... إلخ.
???
خلاصة القول - إذن - هى أن:
1- الإيمان المسيحى... ثابت لا يتغير.
2- العقيدة الأرثوذكسية... ثابتة لا تتغير.
3- الطقوس الكنسية... جوهرها ثابت، وشكلها ممكن أن يتطور قليلاً حسب الاحتياج.
4- وسائل الخدمة... يمكن أن تتطور لتناسب العصر.

???
نحتاج – إذن – أن نستوعب تراثنا الروحى والعقيدى والتاريخى والطقسى والكنسى، لنستطيع أن نواجه العصر باحتياجاته وظروفه وقضاياه...
فمسيحنا " هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ" (عب 13 : 8).
والقديس الأنبا أنطونيوس قال: "من يعرف نفسه يعرف الله، ومن يعرف الله يعرف زمانه".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق