04‏/03‏/2014

† ملاحظات عامّة حول الصوم - بقلم نيافة الأنبا مكاريوس


ملاحظات عامّة حول الصوم

بقلم نيافة الأنبا مكاريوس

الصوم هو ضبط النفس فيما يتعلّق بما لا حاجة لنا به، وهذه تختلف من شخص لآخر، ومع الوقت تزيد الأشياء التي نستغني عنها، إلى الحدّ الذي نصل فيه إلى عدم القنية.
والصوم هو تدريب بسيط لما هو أعمق من مجرّد الامتناع عن الطعام، مثل ضبط النفس تجاه الأفكار والحواس والأعضاء وذلك في مواجهة الخطية وعروض الشر، فقد تَسبَّب عدم الصوم في طرد آدم من الجنة، وحرمان عيسو من البكورية.
الاصوام في الكنسية
تتنوّع الأصوام في الكنيسة ما بين العامّة مثل: الصوم الكبير، والبرمون، والأربعاء والجمعة، وصوم الميلاد، وصوم الآباء الرسل، وصوم السيدة العذراء؛ إلى جوار أصوام خاصة تقرّرها الكنيسة في ظروف معيّنة (المناداة بصوم جماعي)، وقد حدث هذا كثيرًا في الكتاب المقدس: «قَدِّسوا صَوْمًا. نادوا باعتِكافٍ...» (يوئيل 1: 14). وعلى مستوى الأفراد قد ينصح المدبِّر الروحي ابنه بالصوم في أي وقت.
الصوم عن الدسم:
«رُكْبَتَايَ ارْتَعَشَتَا مِنَ الصَّوْمِ، وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ» (مزمور 109: 27)
تضع الكنيسة قوانين للطعام في الصوم، فهناك أصوام يصل فيها النسك إلى درجة عالية مثل الصوم الكبير الذي يعقبه ذكرى آلام الرب وصلبه، وكذلك أيام الأربعاء والجمعة والبرمون، فلا يُؤكَل فيها شيء من الدسم، وهناك بعضٌ من الرهبان والعلمانيين يسلكون بنسك أكثر مما ترتِّبه الكنيسة، بعضهم كان يحيا على وجبة من البلح، والآخر مسلوق ... الخ؛ ثم أصوام أخرى تسمح فيها الكنيسة بتناول السمك، فهو رغم أنه لحم إلاّ أنه يعطى سعرات أقل، ولكن الأقباط، وبسبب محبتهم للنسك، فإنهم يتجاوزون الحد المسموح به بفرح ورضىً، مثلما يحدث في صوم السيدة العذراء حيث يصومون أكثر من مدة الصوم، وأشد نسكًا مما هو مطلوب.
ولنتذكّر الآن كيف اختار الفتية الثلاثة تناول البقول رغم أوامر الملك، وقد كانوا عبيدًا وأسرى، وليس من حقّهم أن يشترطوا الأطعمة أو يعترضوا على أوامر الملك، وهذا يعني أنه بإمكاننا أن نلتزم قانوننا الروحي مهما كانت العقبات أو ظروفنا، ومع ذلك ظهروا أقوياء متماسكين رغم الصوم، ولنتذكّر الآن كيف كان الأنبا أرسانيوس والأنبا أنطونيوس أقوياء أصحاء معمِّرين رغم نسكهم الشديد، ومثلهم أكثر الرهبان، والسبب هو الأكل بشكر وبساطة قلب، مثلما قيل عن المؤمنين في العصر الرسولي: «كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ» (أعمال 2: 46)، وكثير من سكّان البراري اقتاتوا على بعض الزروع التي تنبت في الصحراء.
من هنا فإنه من غير المقبول أن يتحايل إنسان على الصوم، فهو يرضي ضميره بالصوم ولكنه يتحايل من جهة أخرى عليه بأطعمة بديلة، وكأن ما أعطاه باليمين يستردّه بالشمال، ناهيك عن سلامة مثل تلك البدائل: فهذا سمن صناعي، ولحوم، وجُبن، وشوكولاته، وجاتوهات، وألبان، وغيرها! وتسال في النهاية: لماذا إذًا الصوم؟ وفي صالح مَنْ؟ وما أشبه ذلك بأشباه الفضائل. كُن واضحًا: هل أنت صائم أم لا؟
الانقطاع في الصوم:
يرتبط الانقطاع عن الطعام والامتناع عن الدسم أحدهما بالآخر، فكيف ينقطع إنسان عن الطعام لعدّة ساعات ليأكل بعدها ما يشاء؟! وقد لا يُحسَب هذا إلاّ تأخيرًا لموعد الطعام، وهل يُحسَب صائمًا مَنْ ينام حتى ساعة متاخرة من النهار ليتناول طعامه عقب استيقاظه؟ وهل يُحسَب صائمًا حتى الثالثة أو الرابعة من يستيقظ من نومه عند الظهر؟ إن عنصر الجوع في الصوم هامٌّ كشرط لصوم سليم حتى تكتمل أركان الذبيحة فيه، ومن هنا نقول إن هناك فرقًا بين الصوم الحقيقي وفقدان الشهية. يُحسَب الصوم الانقطاعي خلال الفترة التي كان الإنسان مستيقظًا فيها، ضابطًا لنفسه، لا سيما إذا تحرّكت فيه شهوة الطعام والشراب. وكلما ضبط نفسه كلما كان الصوم فعّالاً وقانونيًا. وقد تسلّمنا من الآباء كيف كانوا حريصين جدًا على الالتزام بفترة الانقطاع.
المرونة في ذلك:
ليست هناك قوانين للمرونة إذ أنها تختلف من موقف لآخر ومن شخص لآخر، سواء من جهة مرونة المدبِّر مع الشخص، أو مرونة الشخص مع نفسه، أو مع ضيوفة. ولكن هناك قاعدة معروفة وهي أن المرونة مقبولة إن كانت من أجل عمل المحبة. وكانت المرونة تأتي في إطار الأكل مبكِّرًا، والآن تأتي المرونة أيضًا من جهة الإفطار الكامل سواءً الحبالى أو المرضعات أو الشيوخ أو العجائز أو المرضى بأمراض معينة. ومع ذلك فهناك أشخاص أُمناء وملتزمون بالتدبير مها كانت حالتهم الصحية، أذكر قداسة البابا شنوده ونيافة الأنبا أرسانيوس ورهبان وعلمانيين كثيرين.
كمية الطعام:
يحتاج الجسم إلى كمّية ما من الطعام تختلف من جسم لآخر ومن شخص لآخر حسب المجهود الذي يبذله، والإنسان يحتاج إلى جهاد لكي يكون جسمة معقولاً، ويحتاج أيضًا إلى ترويض بالتالي، مثلما حدث مع الأنبا موسى وغيره. وفي الأوقات التي ليس فيها صوم قد يتجاوز الإنسان احتياجه قليلاً إلى فوق، ولكنه ملتزم بالاحتياج الفعلي للجسم، لا أقلّ ولا أكثر، لأن الجسد وزنة يجب المحافظة عليه، وإذا اُتخِم الجسد أظلم الذهن، وإذا أُجهِد ضاع التركيز، وفي الحالتين هناك مخالفة. ويجب علينا أن نتبع التعقُّل في الصوم، فهناك بعض من الشباب يسلك بتطرُّف متشبِّهًا ببعض القديسين الذين قضوا سنوات طويلة حتى وصلوا إلى ذلك من خلال التدرُّب جسديًا وروحيًا ونفسيًا، وليس من الصواب أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون.
نوعية الطعام:
من المهم الاهتمام بما هو بسيط ومفيد، وعدم الوقوع تحت تأثير أنواع معينة وأكلات معينة، بل بشكر نأكل ما يقوم بالأود، وإذا قُدِّر لنا أن نرى ماذا يأكل الناس في القرى والنجوع لشكرنا الله على كل شيء، كما يجب أن نشكره أيضًا إذا كان بإمكاننا أن نتناول كل طعام لأن هذه نعمة محروم منها كثيرون مُنِعت عنهم أطعمة كثيرة (مثل أنور وجدي وعبد الحليم وغيرهم).
يليق مع الصوم التناول، وقراءة ما يناسب خلال موسم الصوم. فالصوم يضعنا في جو روحي خاص إذا فهمناه ومارسناه بشكل سليم وكنسي، فهو فترة جهاد وشحن روحي، واقتراب أكثر من الله، وليس مجرد فلسفة من جهة كمية طعام أو موعد لتناوله، وإلاّ لكان الهنود أكثر مهارة وقوة في الصوم منّا.
الصوم لم يكن هدفًا، مَثَله في ذلك مَثَل بقية مفردات التدبير الروحي أو الفضائل، ولكنه وسيلة نتقرّب بها من الله، ولذلك كان الآباء يؤدِّبون البعض بالتخلّي عن الصوم، مثلما كانوا يؤدِّبون آخرين بالإمساك عن الطعام، وهو ما يُسمّى في التدبير الروحي بـ"شفاء الضد بالضد".
والله يُسرُّ بأصوامنا وصلواتنا، ويتقبّلها كذبيحة طاهرة، ولكنّه يُسرّ بالأولى بانشغالنا عن العالميات، والتصاقنا به، وقدرتنا على ضبط ذواتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق