15‏/10‏/2010

- القدوة عظة صامتة



بقلم قداسة البابا شنوده الثالث






إن كنت يا أخي قد أمكنك أن تصل إلى حياة الفضيلة، فمن واجبك أن تعمل أيضاً على توصيل الآخرين إليها. أنت مسئول إذن أن تعمل عملاً من أجل خير الناس، في نطاق الدائرة التي تحيا فيها. فإن كنت قد ذُقت حلاوة الحياة في الخير، فما أجمل أن تدعو الناس إلى هذه المذاقة. أنت لا تستطيع أن تتخلَّى عن مسئوليتك الروحية تجاه الآخرين، إن كنت تحبهم بالحقيقة. عليك إذن مسئولية روحية تجاه غيرك في حدود إمكانياتك. قد لا تكون من رجال الدين، ولا من قادة الفكر، ولكنك على الرغم من ذلك تستطيع أن تجذب الناس إلى الحياة الروحية بقدوتك الصالحة أمامهم.




إن القدوة هى واجب على الكل، وهى ممكنة للكل، ونافعة أكثر من الوعظ والتعليم. إن الوعظ يُقدِّم تعليماً نظرياً، أمَّا القدوة فهى تُقدِّم المثال العملي. والذي لا يستطيع أن يعظ، يمكنه أن يكون عظة. يمكنه أن يكون رسالة عملية معروفة ومقروءة من جميع الناس. كل مَن يراه ينتفع بمنظره دون أن يتكلَّم. وينتفع أيضاً بأسلوبه في الكلام وفي التَّصرُّف دون أن يعظ. والمعروف أن الناس يستفيدون من حياة الآخرين، أكثر مِمَّا يستفيدون من أقوالهم. ومن ناحية أخرى لا يمكنهم أن يستفيدوا من عظات أحد، إن لم تكن تصرفاته روحية تسند عظاته وتتفق معه.




والقدوة تنفع أيضاً بالنسبة إلى الذين لا يمكنك وعظهم. فأنت قد تعظ أو قد تُعلِّم مَن هو أصغر منك سناً، أو أقل منك مركزاً أو عِلماً. ولكنك قد تحتشم من أن تعظ مَن هو أكبر أو أعلى منك. فهذا تنفعه قدوتك.




كذلك هناك أشخاص لا يحتملون الوعظ ولا يقبلونه! تمنعهم كبرياؤهم أو يمنعهم إعتدادهم بأنفسهم من قبول كلمة توجيه أو نُصح، أو كلمة تعليم أو وعظ. وبالأكثر أيضاً لا يحتملون كلمة نقد. وإن قُلت لأحد منهم كلمة منفعة، قد ينظر إليك في إستنكار وسخرية ويقول لك: ( إنت ها توعظني؟! ). كل هذا النوع من الناس قد تنفعهم قدوتك ومثالك الطيب الذي يُكلِّمهم في صمت.


وبحياة القدوة يمكنك أن تصل إلى منفعة الآخرين بتقديم المثال الروحي العملي لهم. وبسلوكك الحسن تجذب آخرين إلى محبة اللَّه وتنفيذ وصاياه. وتكون عظة لا واعظاً. إن السيد المسيح لمَّا غسل أرجل تلاميذه، كان مثالاً عملياً لهم وللعالم في التواضع والمحبة. وأنت يا أخي العزيز من المفروض أن تكون حياتك وسط الناس قدوة لهم ومثالاً ونموذجاً موضوعاً أمامهم، يرون فيه الطريق العملي لنقاوة الحياة. وحياتك العملية في محبة الآخرين وفي بذلك لأجلهم، وفي تعاونك معهم، وفي خدمتهم، إنَّما هى درس عملي تُقدِّمه. لأن المحبة لا تكون بالكلام وباللسان، وإنما بالعمل والحق. كذلك إن عِشت في سلام مع الكل، وبطبيعة هادئة وديعة، تحترص من أن تُغضِب أحداً، إنما تكون بلسم في السلام وفي الهدوء، دون أن تُلقي تعليماً في هذا الأمر.




إنَّ أُم موسى النبي التي لم تكتفِ بإرضاعه لبنها بالجسد، بل أرضعته أيضاً الإيمان القوي الذي ثبت فيه حينما عاش في قصر فرعون وسط كل الإلهة القديمة، ولم يتأثَّر بها بل صار فيما بعد قائداً للإيمان ... هذه الأُم أعطت للعالم درساً في واجب الأمومة وكيف تهتم بإيمان أبنائها.




+ إننا لا نأخذ قدوة فقط من البشر الصالحين، إنما يقول سليمان الحكيم: " تعلَّم من النملة أيها الكسلان ". صدقوني إنني لم أرَ في حياتي كُلّها نملة تقف بلا حركة، فهى دائمة العمل في نشاط عجيب هو درس لنا وقدوة. كذلك نأخذ درساً من حبة القمح التي نلقيها في الأرض فتظل تعمل حتى تُقدِّم لنا ثمراً وفيراً: أولاً نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل. كل هذا الثمر من حبة واحدة ... ونفس الوضع بالنسبة إلى كل شجرة مُثمرة، كم تعطي في كل موسم؟ إنها أيضاً درس. بل نأخذ قدوة أيضاً من الأرض التي تدور ولا تتوقَّف مُنذ آلاف السنين، منذ خلقها، وهى تدور بإستمرار حول محورها. وتنتج في كل دورة ليلاً ونهاراً ... ملايين السنين وهى لا تتوقف. تُرى لو سئمت الأرض من دورانها، وتكاسلت واتكأت قليلاً على محورها لتستريح! أمَا كان العالم يرتبك؟! ولكن الأرض في حركتها الدائمة تعمل العمل الذي أوكله اللَّه إليها، وتعطينا قدوة ودرساً لا ننساه. كذلك الشمس هى الأُخرى عظة صامتة. إذ تشرق على الصالحين والطالحين، وتعطي بنورها للمستحق وغير المستحق. ونورها يضيء لنا دون أن نطلب. فالشمس لا تنتظرك حتى تطلب منها ضوءاً، وكذلك القمر. بل كلاهما ينيران لك ويضيئان الطريق دون أن تطلب إنه درس من القدوة. والشمس في قدوتها تدخل بيت الملك، وتدخل بيت الخادم، والمسكين. الكل يحتاجون إليها، والكل يتمتَّعون بها وهى لا تُفرِّق بين عظيم وحقير، أو بين غني وفقير. ونورها يُطهِّر كل مكان ولا يتنجس به. هكذا أنتم يا إخوتي في معاملتكم للناس وفي قدوة الشمس لكم التي تشرق على كل أحد بدون تمييز. أنتم جميعاً ضرورة لازمة لنفع العالم. لستم لأنفسكم فقط، وإنما لخير البشرية كلها بالقدوة.


+ والإنسان الصالح لا يُقدِّم قدوة أثناء حياته فقط. بل تظل قدوته قائمة ونافعة حتى بعد وفاته. هو نور يضيء عبر الأجيال، ولا تموت سيرته بموته بل تبقى قدوة للناس. بل إنه إن مات يتكلَّم بعد بهذه القدوة. وفي هذا المجال لست أذكر فقط بعض سير القديسين المعروفين. إنما أذكر من جهة القدوة قصة المهاتما غاندي الزعيم الهندي العظيم، الذي قدم قدوة عجيبة في الجهاد البعيد تماماً عن العُنف. كان غاندى البراهمي هو المثل الروحي الحي في أيامه. كان إذ صام يهز البرلمان الإنجليزي. وكان في تحمله للألم والاضطهاد بدون مقاومة أو انتقام، ينال إعجاب العالم كله ويستنزل السخط على الحكام القساة في أيامه. كونوا يا إخوتى قدوة وبهذا تنفعون غيركم دون أن تتحدثوا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق