بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
فكر الإنسان أمر هام في حياته. والفكر ينبع من مصادر، ويُصب في أخرى. وحواس الإنسان هى من منابع الفكر. فالحواس توصِّل للعقل أفكاراً. وما يفكر فيه العقل، يوصِّل إلى القلب مشاعر وأحاسيس. وما أسهل أن مشاعر القلب تصل إلى الإرادة، ومنها إلى العمل ... إنها سلسلة متتابعة.
+ والحواس لا تؤثر على العقل الواعي فقط، إنما على العقل الباطن أيضاً. فما تراه العين وما تسمعه الأذن من مناظر وسماعات وقراءات، كثيراً ما تنطبع ـ حسب عمقها ـ في العقل الباطن. وتظهر فيما بعد كأحلام أو ظنون أو أفكار أخرى. لأن الفكر يلد فكراً أو أفكاراً كثيرة. والعقل دائم العمل لا يتوقَّف. وحسب الغذاء الذى تُقدِّمه للعقل، تكون أفكارك. فقد تجلب له الحواس أفكاراً خيّرة، وقد تجلب له أفكاراً شريرة. وحسب نوعية الوقود تكون النار. فاحرص يا أخي على حواسك، لتضمن سلامة فكرك. وإسأل نفسك أى نوع من الفكر يدور في عقلك؟ أهو فكر رديء، أم فكر خطية أم فكر تافه من أمور العالم الزائلة؟
+ كذلك القراءات تؤثر كثيراً على حياتك وشخصيتك. ويمكن أن تغرس في النفس مبادئ وقيماً، حسب نوعية القراءة. فالذي يقرأ كثيراً عن الحرية وأنواعها، غير الذي يقرأ عن الإلتزام وعن الضوابط. والذي يقرأ عن الهدوء، غير الذي يقرأ عن الكفاح والجهاد والحماس... حقاً أن القراءة يمكنها أن تساهم في تشكيل شخصية الإنسان. كذلك أيضاً القراءة توسِّع الفكر، وتُعمِّق مفاهيم مُعيَّنة، وتزيد المعارف. وما أصدق الشاعر الذى قال عن القراءة في التاريخ:
ومن وعى التاريخ في صدره *** ضاف أعماراً إلى عمره
والقراءة تستطيع أن تبعد الفكر عن التوافه. المرأة التى لا تقرأ، ربما لا تعرف سوى الحديث عن الأعمال المنزلية، وعن الملابس والحفلات، وأخبار الناس. بعكس المرأة المثقفة التى تُجيد الكلام في موضوعات لها عمق. وبالمِثل الرجل الذى لا يعرف المقهى والنادي ودور اللهو، تكون شخصيته سطحية، وأحاديثه بلا نفع أو قد تضُر. وعلى عكسه الرجل الذي يقرأ، ويكون كلامه ذا نفع.
وبهذا نحن نفرح بتعليم المرأة، ونحث الناس على القراءة حتى الأطفال. ونُشجِّع على تكوين المكتبات. ونطلب من الآباء والمُرشدين أن يوجِّهوا أبناءهم إلى نوعية القراءة التي تُفيدهم والتي تناسبهم. والروحيون إذا قراءوا كُتباً روحية، يرتفع مستواهم ويزداد عمقهم بما يقراؤن. المُهم أن يتخيَّر الناس ما يصلح للقراءة وما ينفع.
والقراءة تمنح الفكر لوناً من النمو والنضوج. فهى تشرح للعقل موضوعات ما كان يعرفها. وتناقش معه أفكاراً ربما كان يتلقاها من قبل بالتسليم. فأصبح يدخلها في نطاق الحوار.
وما كنا نقوله منذ سنوات عن مراحل السن عند الأطفال، قد تغيَّر حالياً عن ذي قبل تغيراً كبيراً جداً، بقدر ما يُقدِّمه المجتمع للطفل والشاب من معلومات، وما يُقدِّمه أيضاً لرجل الشارع، وكذلك بإزدياد المطبوعات ووسائل التكنولوچيا الحديثة، قد تغير الفكر عن ذي قبل، بحسب نوعية القراءة ونوعية الثقافة.
+ مِمَّا يؤثِّر في الإنسان أيضاً: السماعات؛ فأنت تسمع كثيراً في الإجتماعات العامة والخاصة، وفي محيط الأقرباء والأصدقاء والمعارف. وتسمع من وسائل الإعلام كالراديو والتليفزيون والڤيديو والكاسيتات والـ CD. ولكن المُهم هو في أمريْن: أن تتخيَّر ما تسمع، وتتحكَّم فيما تسمع. إن اللَّه قد خلق لك أُذنين. ومن الناحية الرمزية لكي تسمع الرأي، وتسمع الرأي الآخر. ولا تكن خاضعاً لرأي واحد، ولا لكل ما تسمعه. إنما تحكم عقلك فيما تسمع. فتقبل ما يصلح، وترفض ما يضر. ولا تجعل عقلك خاضعاً لأذنيك أي لا تكن سماعاً. ولا تُصدِّق كل ما تسمعه. بل إفحص كل شيء، وإبحث عن الحقيقة. ولتكن أذنك مصغية إلى السماع المفيد، أي إلى كلمة النُّصح، وكلمة المنفعة، وكلمة التوبيخ المُخلص، وكلمة الإرشاد من الحكماء. وعموماً إلى الكلمة التي تبني أي تبنيك روحياً وفكرياً، وتثبتك في الحياة مع اللَّه. واحترص من كلام الملق ومن كلام الإغراء.
+ وفي مجال السماع أيضاً، لا يمكن نسيان تأثير الموسيقى والألحان والأغاني. فإن لكل ذلك تأثيراً عميقاً في النفس. وفي مجال السماع أيضاً إحترص مِمَّا يسميه البعض ( غسيل المخ ). وذلك بوقوع العقل أحياناً تحت تأثير فكري مُعيَّن، يُضيِّع منه كل ما أخذه من قبل وكل ما إقتنع به. وذلك بأن تغرس فيه شكوك وأفكار أخرى، دون أن تكون له فرصة لمعرفة الرد على ما يسمعه، أو الإتصال بالرأي الآخر ... إلى أن يخرج من هذا الغسيل شخصاً مختلفاً تماماً عمَّا كان من قلب ... وإلى جوار الإختيار الطيب لما تسمعه، عليك أن لا تردد كل ما تسمعه وتصبه في آذان غيرك. وإحترص من أسلوب الببغاوات، لئلا تنتقل شائعات أو معلومات قد تكون ضارة. وكما لا تنشر كل ما تسمعه، لا تنشر أيضاً كل ما تقرأه. ذلك لأن البعض لا يكتفون بتأثره بأفكار جديدة مُعيَّنة، بل يتحمَّسون لها بالأكثر لدرجة أنهم ينشرونها في كل المحيط الذي يعيشون فيه. كذلك لا تعجب بكل جديد مِمَّا يصل إلى فكرك بل عليك أن تفحصه بكل دقة قبل أن تعتنقه .
+ أخيراً لا تقل إني لا أتأثر بشيء، وقد تأثرت عقليات أخرى كبيرة. وإلاَّ فماذا كان مصدر البدع الجديدة التي عرفها العالم؟ إنها لم تأتِ من فراغ. إن نظرية أينشتين كان لها تأثيرها. والماركسية كان لها تأثيرها ... بل حتى الخرافات التي يؤمن بها بعض الناس لها تأثيرها، والشعوذة أيضاً لها تأثيرها. والمرشدون المُضلِون لهم تأثيرهم. والعقل ليس معصوماً من الخطأ، وكذلك الفكر. والإنسان الحكيم يحترص جداً من كل ما يؤثِّر على عقله وفكره. ويحتفظ بثباته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق