بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
لقد خلق اللَّه الإنسان حُرَّاً أي بإرادة حُرَّة يستطيع أن يفعل ما يشاء. ولكن ما هو مفهوم هذه الحرية؟ وكيف يمكن للإنسان أن يُمارسها؟
+ أولاً: كل حرية يُقابلها حساب ومسئولية. ففاقد الحرية لا يُحاسَب على أفعاله. أمَّا الإنسان الحُر فيوجد حساب على كل ما يفعله خيراً كان أم شراً. فينال مكافأة على أعماله الخيِّرة، كما توقع عليه العقوبة نتيجة لأعماله الخاطئة أو الشريرة. والعقوبة على الخطأ الذي يرتكبه الإنسان بحريته، هى عقوبة مزدوجة، على الأرض وفي السماء. وقد ينجو الإنسان من العقوبة الأرضية. ولكن تبقى العقوبة في العالم الآخر قائمة، لا تُمحى إلاَّ بالتوبة. كما أن الخير الذي يفعله الإنسان بحرية إرادته له مكافأة مزدوجة. وإن لم ينل هذه المكافأة على الأرض، فأجره محفوظ في السماء.
+ ثانياً: لا توجد للإنسان حُرِّيَّة مُطلَقة. فأنت حُرّ في كل ما تفعله، بحيث أنك لا تعتدي على حقوق أو حُريات الآخرين. وبحيث أنك لا تكسر وصايا اللَّه. وبحيث لا تخالف القانون والنظام العام الذي جُعِلَ من أجل سلامة البلد وراحة الآخرين. وهكذا نتكلَّم عن الحُرية المنضبطة وليس عن الحرية المُطلَقة.
فأنت ليس من حقك مثلاً أن تركب سيارة وتخالف قواعد المرور، وتقول: أن حُرّ أسير حيثما أشاء!! وليس من حقك أن ترفع صوتك في ضوضاء وتزعج بها الآخرين، وتقول: أنا حُرّ أرفع صوتي كما أشاء!! وليس من حقك أن تخرج في مظاهرة للتعبير عن رأيك، وفي أثنائها تحرق أحد المباني أو السيارات! وليس من حقك أن تأخذ في الإمتحان ورقة تغش بها، وتقول: أنا حًر أستعمل ما أشاء من أوراق!!
+ كذلك كما تستخدم حريتك بحيث لا تضر الآخرين ولا تُخالف النظام العام، فأنت أيضاً من حقك أن تستخدم حريتك بحيث لا تضر نفسك. ذلك لأن نفسك ليست ملكاً لك. إنها ملك للَّه الذي خلقها ومنحها الوجود. وهى أيضاً ملك للمجتمع الذي رعاك وربَّاك، وله عليك حقوق يجب أن تؤديها. فلذلك فقتل الإنسان لنفسه بالإنتحار، جريمة يُعاقِب عليها اللَّه، ولا يوافق عليها المجتمع. ونفس الوضع ينطبق على مَن يضر نفسه عن طريق التدخين أو المخدرات. فليس من حقه أن يقول: أنا حُر أُدخِّن كما أشاء، وأتعاطى المخدرات كما أشاء!! لأنه ليس من حقه أن يهلك نفسه ولو بالتدريج. وليس من حقه أن حرم المجتمع من وجوده في قوة وصحة مؤدياً واجبه.
+ ثالثاً: إن الضوابط التي توضع على الحرية، هى لفائدتك وليست لتقييدك. ومن فائدتها أنها تمنعك عن الإضرار بنفسك، وعن الإضرار بغيرك، وعن الإضرار بالمجتمع، وعن مخالفة وصايا اللَّه.
إن النهر له شاطئان، لا يُقيدان مجراه، إنما يحفظانه. وإذا لم تكن للنهر شواطئ، فإنه سينسكب ويفيض على الجانبين. ويُغرِّق الأرض ويحولها إلى مستنقعات. أترى يستطيع أي نهر أن يحتج على وجود شاطئين له، ويقول إنهما يقيدان حريتي؟! كذلك أنت: الشاطئان بالنسبة إليك هما وصايا اللَّه، وقوانين أو تقاليد المجتمع. أم الشاطئان هما الدين والتربية، وكلاهما لفائدتك. فالطفل الذي يرفض التربية ويحسبها تقيداً لحريته. والشاب الذي يرفض إرشاد أبويه أو مُعلِّميه أو مُرشديه، ويرى ذلك تقيداً لحريته، لابد أنه سيفسد ويفقد الطريق السليم السوي، ويضل. وحاشا أن يكون الضلال هو اسم آخر للحرية أو نتيجة لها!
+ رابعاً: الحرية الحقيقية هى أن يتحرَّر الإنسان من الأخطاء. فيتحرَّر من الخطايا والسقطات، ويتحرَّر من العادات الرديئة. يتحرَّر قلبه من كل المشاعر الخاطئة، ويتحرَّر عقله من الأفكار المنحرفة أو السيئة. يتحرَّر أيضاً من الخضوع للشيطان وكل أعوانه. ويتحرَّر من تأثير الصحبة الرديئة والمعاشرات المفسدة. ويتحرَّر من كل قيادة تفرض سلطانها على إرادته، لتقوده حسب هواها في مسيرة منحرفة.
+ خامساً: الذي يتحرَّر داخله من الخطيئة، يمكنه أن يستخدم الحرية في الواقع بطريق سليم. فمثلاً الذي يتحرَّر من الكراهية والقسوة والعنف والظُّلم، يستطيع أن يستخدم حريته في التعامل مع الناس بطريق سليم. أمَّا إن كان ظالماً أو قاسياً وقال أريد أن أستخدم حريتي في التعامل كما أشاء، فإنه سوف يؤذي غيره بقسوته وبظلمه، أي بعدم تحرُّره من القسوة والظلم.
كذلك الذي لم تتحرَّر عفته من الشهوات الجسدية، فإنه حينما يستخدم حريته لتنفيذ شهواته، لابد سيؤذي نفسه وغيره. وفيما يظن أنه يستخدم حريته، يكون قد أضاف على نفسيته قيوداً جديدة تمنع نقاوته. والطالب الذي يلعب طول العام ويهمل دروسه ويقول: أنا حُر! إنما يضر نفسه باسم الحرية الخاطئة ويضيع مستقبله ويفشل. إذن نصيحتنا لك أن تستخدم حريتك لفائدتك وفائدة غيرك. وأن تتحرَّر أولاً من الداخل قبل أن تمارس الحرية الخارجية.
+ سادساً: لابد أن يضبط الإنسان نفسه ليصل إلى الحرية الحقيقية. فلا يعطِ ذاته كل ما تطلب، لئلا يصل إلى تدليل النفس، ويفقد سيطرته على نفسه. وبالتالي يفقد حريته الحقيقية.
وهكذا ينبغي أن يدخل الإنسان في تداريب روحية لضبط النفس: أي لضبط اللسان فلا يقع في أخطاء. وضبط الأعصاب حتى لا يثور، وفي غضبه يفقد معارفه وأصدقاءه. وأيضاً تداريب لضبط الفكر حتى لا يسرح في أمور تضره. وكذلك يدخل في تداريب لضبط الحواس، ولضبط الجسد بالصوم والسهر، وضبطه في البعد عن الشهوات حتى لا ينحرف في الملاهي والملاذ الجسدية ويفقد روحياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق