08‏/05‏/2009

ألأنبا أنطونيوس ألكبير

.

مختصر سيرتة وأقوالة
كما وردت في بستان الرهبان
سيرة القديس أنطونيوس: من أهلِ الصعيدِ من جنسِ الأقباطِ، وسيرتُه عجيبةٌ طويلةٌ إذا استوفيناها شرحاً ... وإنما نذكرُ اليسيرَ من فضائِلِه:
إنه لما توفي والدُه دخل إليه وتأمَّل وبعد تفكيرٍ عميقٍ قال: «تبارك اسمُ الله، أليست هذه الجثةُ كاملةً ولم يتغير منها شيءٌ البتة سوى توقُّف هذا النَّفس الضعيف. فأين هي همَّتُك وعزيمتُك وأمرُك وسَطوتُك العظيمة وجمعُك للمالِ. إني أرى الجميعَ قد بَطُلَ وتركتَه ... فيا لهذه الحسرةِ العظيمةِ والخسارةِ الجسيمة». ثم نظر إلى والدِه وقال: «إن كنتَ قد خرجتَ أنت بغيرِ اختيارِك فلا أعجبَّن من ذلك، بل أعجبُ أنا من نفسي إن عملتُ كعملِك». ثم أنه بهذه الفكرةِ الواحدةِ الصغيرةِ ترك والدَه بغيرِ دفنٍ. كما ترك كلَّ ما خلَّفه له من مالٍ وأملاكٍ وحشمٍ، وخرج هائماً على وجهِهِ قائلاً: «ها أنا أخرجُ من الدنيا طائعاً كي لا يخرجوني مثلَ أبي كارهاً». ولم يزل سائراً حتى وصل إلى شاطئِ النهرِ حيث وجد هناك جميزةً كبيرةً وعندها بربا، فسكن هناك ولازَمَ النسكَ العظيمَ والصومَ الطويلَ، وكان بالقربِ من هذا الموضعِ قومٌ من العربِ، فاتَّفق في يومٍ من الأيامِ أن امرأةً جميلةَ الصورةِ من العربِ نزلت مع جواريها النهرَ لتغسلَ رجليها ورفعت ثيابَها وجواريها كذلك. فلما رأي القديسُ أنطونيوس ذلك حوَّل نظرَه عنهن وقتاً ما ظناً منه أنهن يمضين. ولكنَّهن بدأن في الاستحمامِ في النهرِ. فما كان من القديسِ إلا أنه قال لها: «يا امرأة أما تستحين مني وأنا رجلٌ راهب»؟ أمَّا هي فأجابته قائلةً له: «اصمت يا إنسان. من أين لك أن تدعوَ نفسَك راهباً؟ لو كنتَ راهباً لسكنتَ البريةَ الداخليةَ، لأن هذا المكانَ لا يصلُحُ لسُكنى الرهبانِ». فلما سمع أنطونيوس هذا الكلامَ لم يَرُدَّ عليها جواباً، وكثُرَ تعجُّبه لأنه لم يكن في ذلك الوقتِ قد شهد راهباً ولا عَرَف اسمَه. فقال في نفسِهِ: «هذا الكلامُ ليس من هذه المرأةِ، لكنه صوتُ ملاكِ الربِ يوبخني». وللوقتِ ترك الموضعَ وهرب إلى البريةِ الداخليةِ وأقام بها متوحداً. لأنه ما كان في هذا الموضعِ أحدٌ غيرُه في ذلك الوقتِ، وكانت سُكناه في قريةٍ قديمةٍ كائنةٍ في جبلِ العربةِ. صلاته تكون معنا آمين.
وكان يوماً جالساً في قلايتِهِ فأتى عليه بغتةً روحُ صغرِ نفسٍ ومللٌ وحيرةٌ عظيمةٌ، وضاق صدرُه، فبدأ يشكو إلى اللهِ ويقول: «يا ربُّ إني أحبُ أن أخلصَ لكن الأفكارَ لا تتركني، فماذا أصنعُ»؟ وقام من موضِعِه وانتقل إلى مكانٍ آخرَ وجلس. وإذا برجلٍ جالسٍ أمامه وعليه اسطوانةٌ ومتوشحٌ بزنارِ صليبٍ مثال الإسكيم، وعلى رأسِهِ كوكلس (أي قلنسوة) شبهُ الخوذةِ، وكان جالساً يُضفِّرُ الخوصَ. وإذا بذلك الرجل يتوقف عن عملِهِ ويقفُ ليصلي. وبعد ذلك جلس يُضفِّرُ الخوصَ ثم قام مرةً ثانيةً ليصلي، ثم جلس ليشتغلَ في ضفرِ الخوصِ، وهكذا ... أما ذلك الرجل فقد كان ملاكَ اللهِ أُرسِلَ لعزاءِ القديسِ وتقويتِهِ، إذ قال لأنطونيوس: «اعمل هكذا وأنت تستريح»، ومن ذلك الوقتِ اتَّخذ أنطونيوس لنفسِهِ ذلك الزي الذي هو شكلُ الرهبنةِ، وصار يُصلي ثم يشتغلُ في ضفرِ الخوصِ؛ وبذلك لم يَعُد المللُ يضايقه بشدةٍ. فاستراح بقوةِ الربِ يسوع له المجد.
من تعاليم القديس أنطونيوس:
قال: «إنّ أولَ كلِّ شيءٍ هو أن تصلي بلا مللٍ، واشكر اللهَ على كلِّ ما يأتي عليك. وإذا قُمتَ باكراً كلَّ يومٍ اسأل عن المرضى الذين عندك. لا تتحدث مع صبيٍ ولا تعاشره بالجملةِ ولا ترهبنه بسرعةٍ، ولا ترقد على حصيرةٍ واحدةٍ مع من هو أصغر منك، ولا تخالط علمانياً بالجملةِ، ولا تقترب إليك امرأةٌ ولا تَدَعها تدخلُ عندك، فالغَضَبُ يمشي خلفها، ولا تَعُدْ تفتقد أهلَك الجَسَدَانيين. ولا تُعطِ لهم وجهَك لينظروك. لا تُبقِ لك أكثرَ من حاجتِك، ولا تدفع أكثرَ من طاقتِك. وصدقتُك أعطِها لفقراءِ دَيرِك.
حدث أنه لما دخل القديسُ البريةَ الداخلية، أن الشياطينَ نظرت إليه منزعجةً. فاجتمعتْ عليه وقالت له: «يا صبيَ العمرِ والعقلِ، كيف تجاسرتَ ودخلتَ بلادَنا، لأننا ما رأينا بشراً آدمياً سواك». وابتدَءوا يجاهدونه كلُّهم. فقال لهم: «يا أقوياءُ، ماذا تريدون مني أنا الضعيفُ المسكينُ. وما هو مقداري حتى تجمَّعتم كلُّكم عليَّ. أَلاَ تعلمونَ أني ترابٌ ووسخٌ وكلا شيءٍ، وضعيفٌ عن قتالِ أحدِ أصاغِرِكم». وكان يُلقي بذاتِهِ على الأرضِ ويصرخُ ويقول: «يا ربُّ أعني وقَوِّ ضعفي. ارحمني يا ربُّ فإني التجأتُ إليك. يا ربُّ لا تتخلَّ عني ولا يَقوَى عليَّ هؤلاء الذين يحسبون أني شيءٌ. يا ربُّ أنت تَعلَمُ أني ضعيفٌ عن مقاومةِ أحدِ أصاغر هؤلاء». فكانت الشياطينُ إذا سمعتْ هذه الصلاةَ المملوءةَ حياةً واتضاعاً تهربُ منه ولا تقدرُ على الدنوِّ منه.
وحَدَثَ أن جمعَ الأركونُ (أي رئيسُ الشياطينِ) كلَّ آلاتِ اللَّهوِ والطربِ واللَّذاتِ والنعيمِ والنساءِ وسائر أنواع الزنى ولذَّاتهِ. أما هو فكان يُغمِضُ عينيه ويقولُ: «عجباً منكم. كيف تجعلونَ لي مقداراً وتحتالون في سقوطي، مع إني ضعيفٌ عن مقاومةِ أحدِ أصاغركم. ابعدوا عني وعن ضعفي أنا المسكينُ الترابُ والرماد». وبذلك كانت الأفكارُ تسقطُ عنه بمعونةِ الله، والشياطينُ كانت تحترقُ لكثرةِ اتضاعِهِ. وفي مرَّاتٍ كثيرةٍ كانت الشياطينُ تُحضرُ له جميعَ أنواعِ التخويفِ والإزعاجِ والتهويلِ والعذابِ. وهو يصرخُ إلى اللهِ باتضاعٍ ويقول: «انجدني يا ربُّ بمعونتِك ولا تَبْعُد عن ضعفي». وللوقتِ كانت الشياطينُ تهربُ عنه. ومراراً كثيرةً أيضاً كانت الشياطينُ تهجمُ عليه وتضربهُ ضرباً مؤلماً. وهكذا أقام القديسُ أنطونيوس ثلاثين عاماً إلى أن نظرَ الربُّ يسوعُ المسيح إلى كثرةِ اتضاعِه وصبرهِ واحتمالِه وكَسَرَ عنه شدةَ الأعداءِ. صلاته تكون معنا آمين.
قال القديس أنطونيوس: «أدِّب بخوفِ الله ولا تُشفق. لا تأخذ بوجهِ كبيرٍ ولا صغيرٍ، بل اقطع بكلامِ الحقِّ باستقامةٍ. احرس ثيابَك لئلا تمشي عُرياناً في يومِ الحُكمِ فتُفتَضَح. كُلْ خبزَك بسَكينةٍ وهدوءٍ وإمساك. وجلوسُك يكونُ بأدبٍ. ولا تتبع جميعَ أفكارِك. إذا ضُربَ الناقوسُ لا تتوانَ عن الحضورِ إلى الكنيسةِ، ولا تتقمقم في عملٍ ما. لا تُعيِّر أحداً مهما كانت الأسبابُ. إذا مضَيْتَ إلى أخٍ فلا تُبطئ في قلايتِهِ. لا تتحدث في الكنيسةِ ولا تجلس في أزقَّةِ الديرِ. لا تحلف البتةَ لا بشكٍ ولا بحقٍ. لا تمضِ إلى كنيسةٍ يجتمعُ فيها الناسُ ولا تُلَبِّ دعوةَ وليمةٍ. لا تَقُم بعملٍ من الأعمالِ إلا بعد استشارةِ أبِ الديرِ. لا تُظهر صوتَك إلا في صلاةِ الفرائضِ. والزم الحزنَ على خطاياك كمثلِ من عنده ميتٌ. أَوقِد سراجَك بدموعِ عينيك. لا تتحدث بأفكارِك لجميعِ الناسِ إلا الذين لهم قوةٌ على خلاصِ نفسِك. واشتغل بكلِّ قوتِك ليتمجدَ أبوك الذي في السماواتِ. أدِّب ابنَك بلا شفقةٍ فدينونتُه عليك. لا تأكل حتى تشبع ولا تَنَمْ إلا يسيراً بقدرٍ. لا تكن مُقاتِلاً باللسانِ. اجعل كلَّ أحدٍ يباركُك، والربُّ يسوعُ المسيح يُعينُك على العملِ بمرضاتِهِ». له المجد إلى الأبد آمين.
قيل: إن بعضَ الإخوةِ في الإسقيط اتفقوا على زيارةِ القديس أنطونيوس، فلما ركبوا المركبَ وجدوا فيها شيخاً من الآباءِ يُريد المضيَ إليه كذلك، ولم يكن الإخوةُ يعرفونه. ثم أنّ الإخوةَ اندفعوا يتحدثون حديثَ الآباءِ وبما جاء في الكتبِ ويذكرون أيضاً صناعةَ أيديهم. والشيخُ جالسٌ يسمعُ صامتاً. فلما صعدوا من المركبِ عَلِموا أن الشيخَ ماضٍ معهم إلى القديس أنطونيوس. فلما وصلوا إليه نظر إليهم القديسُ وقال للإخوةِ: «نِعْمَ الرفيقَ وجدتموه، أعني الشيخَ». ثم قال للشيخِ: «نِعمَ الرفقةَ وجدتَهم أيها الأبُ». فقال له الشيخُ: «أما هم فجيادٌ، ولكن دارَهم ليس عليها بابٌ، فإذا أراد أحدٌ الدخولَ إلى الإسطَبلِ ليحُلَّ الحِمارَ ويأخُذَه، ما كان له مانعٌ. أعني أنهم يتكلمون بكلِّ ما يجري على ألسنتِهم».
قيل: أتى إخوةٌ إلى الأنبا أنطونيوس وقالوا له: «يا أبانا، قُلْ لنا كيف نخلُص»؟ فقال لهم: «هل سمِعتم ما يقولُه الربُّ»؟ فقالوا: «من فَمِكَ أيها الأب». فأجابهم قائلاً: «من لَطَمَك على خدِك الأيمن حوِّل له الأيسرَ». فقالوا له: «ما نطيقُ ذلك». قال لهم: «إن لم تطيقوا ذلك فاصبروا على اللطمةِ الواحدةِ». فقالوا له: «ولا هذه نستطيعُ». فقال لهم: «إن لم تستطيعوا فلا تجازوا من يظلمكم». فقالوا له: «ولا هذا نستطيعُ». فما كان من القديسِ إلا أن دعا تلميذَه وقال له: «أصلحْ مائدةً واِصرِفهُم لأنهم مرضى. إن هذا لا يطيقون، وذلك لا يستطيعون، ووصايا الربِّ لا يريدون، فماذا أصنعُ لهم»؟!
وقال أيضاً: «الذي يطرُقُ سبيكةً من الحديدِ يسبقُ أولاً فيُمثِّل في فكرِهِ ما هو عتيدٌ أن يفعلَه، إما منجلاً أو سكيناً أو فأساً وهكذا. فسبيلُنا نحن أيضاً أن نفكرَ في كلِّ شيءٍ نبدأُ في العملِ فيه لئلا يكون عملُنا باطلاً».
وقال أيضاً: «إن الطاعةَ والتمسكنَ يُخضعان لنا الوحوشَ».
وقال أيضاً: «ليكن خوفُ اللهِ بين أعينِكم دائماً، واذكروا من يُميتُ ويُحيي، وأبغِضوا العالمَ وكلَّ ما فيه من نياحِ الجسدِ، ولا تهتموا بهذه الحياةِ الفانيةِ لتحيوا باللهِ. واذكروا ما وعدتم به اللهَ فإنه سوف يطالبكم به في يومِ الدينونةِ. جوعوا. اعطشوا. اسهروا. تعرَّوْا. نوحوا. ابكوا. تنهدوا واحزنوا في قلوبِكم، هل أنتم مستحقين للهِ؟ تهاونوا بالجسدِ لتحيا أنفسُكم».
سُئل القديس أنطونيوس: «ما هو العملُ الجيدُ»؟ فأجاب وقال: «إن الأعمالَ الجيدةَ كثيرةٌ، لأن الكتابَ يقول: إن إبراهيمَ كان مضيفاً للغرباءِ وكان اللهُ معه، وإيليا كان يؤثِرُ سكنى البريةِ والوحدةَ وكان الله معه، وداود كان متضعاً ووديعاً وكان الله معه، ويوسف كان حليماً عفيفاً وكان الله معه. فالذي يُحبهُ قلبُك من كلِّ هذا اعمله من أجلِ اللهِ واحفظ قلبَك. وإذا قاتلتْكَ أفكارٌ كثيرةٌ فقاتِل أنت رأسَها، فإن هزمتَه انهزم باقيها»شيءٌ من ذلك ما دمتَ تُحبُ العالميات».
وقال أيضاً: «إن حدَّثك أخٌ بأفكارِه فاِحْذَر أن تُظهرها لأحدٍ، بل صلِّ عنه وعنك كي تَخلُصا معاً. إن أُمِرتَ بشيءٍ يوافقُ مشيئةَ اللهِ فاحفظه. وإن أُمِرتَ بما يخالفُ الوصايا فقل إن الطاعةَ للهِ أولى من الطاعةِ للناسِ. واذكر قولَ الربِّ: إن غنمي تعرفُ صوتي وتتبعُني وما تتبعُ الغريبَ».
قالوا له: «هل جيدٌ للراهبِ أن يكتفي بذاتِهِ ولا يأخذُ من الإخوةِ ولا يعطيهم»؟ قال: «إن تَصَرَّفَ الراهبُ هكذا فهو يعيشُ بلا اتضاعٍ ولا رحمةٍ، ويَبْعُدُ بذلك من الخيراتِ المعدَّة للمتضعين والرحماءِ».
وسألوه أيضاً: «إن كان جيدٌ أن يكتفيَ الراهبُ بنفسِهِ. إذاً فلا هو يَخدِمُ أحداً ولا يدع أحداً يَخدِمُهُ كذلك»؟ فقال: «إنَّ الربَّ علَّمنا أن نَخدِمَ إخوتنا كما يَخدِمُ العبيدُ سادتَهم. وكما شدَّ هو وَسَطَه وغسل أرجلَ التلاميذِ. ولا نمتنع من أن نُخدَمَ، لأن بطرسَ لما امتنع من غسلِ رجليهِ، قال له المسيحُ: إن لم أغسلك فلن يكونَ لك نصيبٌ معي».
قالوا له: « ما معنى قولُ الرسولِ: افرحوا بالربِّ»؟ قال: «إذا فرحنا بإتمامِ الوصايا فهذا هو الفرحُ بالربِّ. فلنفرح بتكميل وصايا الربِّ وبنجاحِ إخوتنا. ولنحفظ أنفسَنا من فرحِ العالمِ والضحك إن أردنا أن نكونَ من خواصِ ربِّنا. لأنه قال: إن العالمَ يفرحُ وأنتم تبكون. كما قال أيضاً: الويلُ للضاحكين والطوبى للباكين. ولم يُكتب عنه قط أنه ضَحِكَ بل كُتب عنه أنه حَزِنَ ودمعت عيناه».
سأل أخٌ الأنبا أنطونيوس قائلاً: «ماذا أعملُ لكي أجدَ رحمةَ اللهِ»؟ أجابه القديسُ قائلاً: «كلُّ موضعٍ تمضي إليه اجعل اللهَ بين عينيك، وكلُّ عملٍ تعمله يكونُ لك عليه شاهدٌ من الكتبِ، وكلُّ موضعٍ تسكنه لا تنتقل منه بسرعةٍ. احفظ هذه الثلاثةَ تجدَ رحمةً».
سأل الأنبا بموا القديسَ أنطونيوس عما يصنعُ لخلاصِهِ، فقال له: «لا تتكل على برِّكَ ولا تصنع شيئاً تندمُ عليه. وأمسك لسانَك وبطنَك وقلبَك».
قال الأنبا أنطونيوس لتلاميذِهِ: «أنا لا أخافُ اللهَ». فقالوا له: «ما هذا الكلامُ الصعبُ يا أبانا». قال: «نعم يا أولادي، لأني أُحبُّه، والحبُّ يطردُ الخوفَ».
قال الأنبا أنطونيوس: «لا تَفتَرِ على أخيك ولو رأيتَه عاجزاً عن إتمامِ جميعِ الفرائض لئلا تقعَ في أيدي أعدائِك. الخطايا القديمةُ التي فعلتَها لا تفكر فيها لئلا تتجددَ عليك. لا تتوهم أنك عالمٌ وحكيمٌ لئلا يذهب تعبُك سُدَى وتَمُرَّ سفينتُك فارغةً. عوِّد لسانَك القولَ في كلِّ شيءٍ وفي كلِّ وقتٍ ولكلِّ أخٍ وللهِ تعالى: اغفر لي، فيأتيك الاتضاعُ. لا تذكر لَهْوََك ولذَّاتِك في زمانِ كسلِك، ولا تتحدث عنها لئلا يصبحَ ذكرُها لك عثرةً. إذا جلستَ في قلايتِك فلا تفارق هذه الأشياءَ: القراءةَ في الكتبِ، التضرعَ إلى اللهِ، شُغلَ اليدِ. اطلب التوبةَ في كلِّ لحظةٍ. ولا تدع نفسَك للكسلِ لحظةً واحدةً. تَفَكَّر في كلِّ يومٍ أنه آخِرُ ما بقيَ لك في العالمِ، فإن ذلك يُنقِذُك من الخطيئةِ. واعلم أن الاتضاعَ هو أن تَعُدَّ جميعَ البشرِ أفضلَ منك، متأكِّداً من كلِّ قلبك أنك أكثرُ منهم خطيئةً. ويكونُ رأسُك منكَّساً ولسانُك يقولُ لكلِّ أحدٍ: اغفر لي. لا تتكلم قط في همومِ الدنيا بشيءٍ. اِحْذَر من أن تحبَّ بلوغَ شهواتِك وأغراضك. اِبغِض الجسدَ وارفض لذَّاتِه فإنها ممتلئةٌ شروراً. ارفض الكبرياءَ واعتبر جميعَ الناسِ أبرَّ منك. لا تكتم خطيَّتَك التي صنعتَها. ارفض الردَّ على من يُبغضك ولا تفكِّر في قلبِك بشرٍّ. لا تقاتل أحداً وإن استفزَّك باطلاً فلا تغضب. اِحْذَر أن تتكلمَ بكلامٍ فارغٍ ولا تسمعه من غيرِك أو تفكر فيه. وليكن كلامُك في ذِكرِ اللهِ واستغفارهِ».
ثلاثةُ شيوخٍ كانت لهم عادةٌ في كلَّ سنةٍ أن يمضوا إلى الأنبا أنطونيوس. فكان اثنان منهم يسألانَه عن الأفكارِ وعن خلاصِ نَفْسَيهِما. أما الثالثُ فلم يسأله زمانَه كلَّه عن شيءٍ البتةَ. وبعد زمانٍ طويلٍ قال له الطوباني: «هذا الزمانُ كلُّه تجئَ عندي وما سألتني عن شيءٍ». أما هو فقال له: «يكفيني نظري إليك يا أبي».
قال الأنبا أنطونيوس: «إيَّاك والشَرَه فإنه يطردُ خوفَ اللهِ من القلبِ والحياءَ من الوجهِ، ويجعلُ صاحبَه مأسوراً من الشهواتِ ويُضلُّ العقلَ عن معرفةِ اللهِ. اجعل لك دفعةً واحدةً في النهارِ للقيامِ بحاجةِ الجسدِ لا للشهوةِ. لا تكن كسلاناً فتموتَ بأشرِّ حالٍ. أضعف جسدَك كمثلِ من هو مُلقىً على سريرٍ فتهرُبَ الأوجاعُ عنك. اجعل فكرَك في الوصايا كلَّ حينٍ وداوم على فِعلِها. إيَّاك أن تَعيبَ أحداً من الناسِ لئلا يُبغضَ اللهُ صلاتَك. إيَّاك واللعب فإنه يطردُ خوفَ اللهِ من القلبِ ويجعلُه مسكناً لجميعِ الفواحشِ. أتعب نفسَك في قراءةِ الكتبِ واتِّباع الوصايا فتأتي رحمةُ اللهِ عليك سريعاً. إن الراهبَ الذي يكونُ في خِزانتِهِ غيرَ ذاكرٍ للهِ تعالى ولا قارئاً في الكتبِ فهو يكونُ كالبيتِ الخَرِب خارجَ المدينةِ الذي لا تُفارِقُه الجيفُ النَتنة. وكلُّ من احتاج إلى تنظيفِ بيتِهِ من جِيفَةٍ رماها فيه. صلِّ أبداً صلاةً في قلايتِك أولاً قبلَ صلاتِك مع الإخوةِ. ألزم البكاءَ فيترحَّمَ اللهُ عليك. أبغض كلَّ أعمالِ الدنيا وارفضها، فإنها تُبعِدُ الإنسانَ عن اللهِ. اِحْذَر من أن تكونَ صغيرَ النفسِ لأن صِغرَ النفسِ يجلِبُ الأحزانَ. أحبَّ التعبَ واظلم نفسَك لكلِّ إنسانٍ فتملكَ الاتضاعَ. والاتضاعُ يغفرُ الخطايا كلَّها».
قيل: اجتمع جماعةٌ من الآباءِ عند الأنبا أنطونيوس، وتباحثوا في أيِّ الفضائلِ أَكمَلَ وأقدَرَ على حفظِ الراهبِ من جميعِ مصايدِ العدو. فمنهم من قال إن الصيامَ والسهرَ في الصلاةِ يقوِّمان الفكرَ ويلطِّفان العقلَ، ويُسهلان للإنسانِ سبيلَ التقرُّبِ إلى اللهِ. ومنهم من قال إنه بالمسكنةِ والزهدِ في الأمورِ الأرضيةِ يمكنُ للعقلِ أن يكونَ هادئاً صافياً خالصاً من همومِ العالمِ فيتيسَّرَ له التقرُّبَ من اللهِ. وآخرون قالوا إن فضيلةَ الرحمةِ أشرفُ جميعِ الفضائلِ، لأن الربَّ يقولُ لأصحابها كما وَعَدَ: تعالوا يا مبارَكي أبي رثوا المُلكَ المعدَّ لكم من قَبلِ كونِ العالمِ. فَمِن بعدِ انتهائِهم من المباحثةِ والكلامِ، قال الأنبا أنطونيوس: «حقاً إن كلَّ هذه الفضائلِ التي ذكرتموها نافعةٌ ويحتاجُ إليها كلُّ الذي يطلبون اللهَ، ويريدون التقرُّبَ إليه، إلا أننا قد رأينا كثيرين يُهلكون أجسادَهم بكثرةِ الصومِ والسهرِ والانفرادِ في البراري والزهدِ، حتى أنهم كانوا يكتفون بحاجةِ يومٍ واحدٍ ويتصدَّقون بكلِّ ما يمتلكون، ومع كلِّ ذلك رأيناهم وقد حادوا عن المسلكِ القويمِ وسقطوا وعَدِموا جميعَ تلك الفضائلِ وصاروا مرذولين. وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا الإفرازَ. إن الإفرازَ هو الذي يُعلِّمُ الإنسانَ كيف يسيرُ في الطريقِ المستقيمِ الملوكي وكيف يحيدُ عن الطريقِ الوعرةِ. إن الإفرازَ يُعلِّمُ الإنسانَ كيف لا يُسرق من الضربةِ اليمينية بالإمساكِ الجائرِ المقدار، وكيف لا يُسرقُ أيضاً من الضربةِ الشمالية بالتهاونِ والاسترخاء. إن الإفرازَ هو عيُن النفسِ وسراجُها، كما أن العينَ سراجُ الجسدِ. وبخصوصِ الإفرازِ يُحذِّرُ الربُّ قائلاً: اِحْذَر لئلا يكونَ النورُ الذي فيك ظلاماً. فبالإفراز يفحصُ الإنسانُ مشيئاته وأقواله وأعماله. وبالإفرازِ أيضاً يفهمُ الإنسانُ الأمورَ ويميزُ جيِّدَها من رديئها، ونتأكد من ذلك من الكتبِ المقدسةِ. فشاول الملك لما لم يمتلك الإفرازَ أَظْلَمَ عقلُهُ فلم يفطن إلى أهميةِ ما قاله اللهُ له بلسانِ صموئيل النبي. فأغضب اللهَ بذلك التصرفِ الذي به كان يظنُّ أنه يرضي الله، ونسي أن الطاعةَ للهِ أفضلُ من تقريبِ الذبائحِ. والربُّ يُسمِّي الإفرازَ ربّاناً ومدبِّراً لسفينةِ حياتِنا. والكتابُ يقولُ: إن الذين ليس لهم مدبِّرٌ يسقطون مثلَ الورقِ من الشجرِ. وأيضاً يقولُ الكتابُ: كَمِثلِ مدينةٍ غيرِ محصَّنةٍ وكلُّ مَن أرادَ دَخلها وأخذَ كنوزَها، كذلك الإنسانُ الذي يعملُ أمورَه بغيرِ مشورةٍ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق