. |
د. مجدى اسحق |
" أنجيلك لا يناسب ألا عصر الرسل" |
هكذا صاح ... " وهو غاضب يلوح بقبضتيه فى الهواء ... ثم أضاف بنبرة خشنة ... كلمات الكتاب مدونة لعصر سابق ولا ينطبق هذا إلا على أهل هذا العصر ... هكذا بدأ حديثنا الساخن ... ولا عجب فهذا الفكر ليس مجرد كلمة تقال هنا أو هناك ، بل هو تيار دفين يسرى فى عقل كثرة من الشباب الذين يعتقدون فى تقادم كلمة الله . وبالحاجة لأستحداث مفاهيم جديدة تناسب العصر الحالى مثلما يحدث لأى كتاب علمى ، فأنه يعاد طبعه مرات ومرات ، وفى كل مرة نحذف جزء ونضيف جزء ، حسب الأبحاث العلمية التى تضيف وتبدل وتعدل وتطور فى العلوم . وما أخطر هذا الفكر علينا ... ووجدتنى بعد نهاية حديث طويل ملئ بالحجج والبراهين انكب على الورق وأمسك بقلمى ، لأكتب هذا المقال الذى تقرأه الأن عن "الأنجيل ومتغيرات العصر" |
أولاً : الكتاب المقدس كتاب لكل العصور : |
كلمة الله تختلف عن أى كلمة ... فهى "الكلمة" أو اللوجوس Logos الشاملة العاملة فى الكون منذ الدهر ، وهى بعينها الكلمة التى خلق الله بها الكون "وكان الكلمة الله ... كل شئ به كان " (يو 1 : 3) . الكلمة ليست مجرد فكرة ، لكنها شخص حى مستجد ، والكلمة من هذا المنظور تسمو على الأزمنة والأشخاص ، وتتخطى الأحداث والأماكن لتستوعب بلانهائيتها ، وكل الظروف والعصور والشخصيات , ولهذا فهى لا تتغير ورغماً عن ذلك فهى لا تزال حية وعاملة ومناسبة لأن أتساعها من أتساع الله ... له كل المجد . والكلمة أيضاً " حية " (عب 4 : 12) أو قل هى "الحياة نفسها" (يو 6 : 63 ) هى هى بعينها "الحياة الأبدية" (يو 6 : 68) .. هى تعطينا الحياة لأنها تبنى القلب والفكر والروح وتسكب فينا حضور الله ... وعندما تتدفق الحياة فى الإنسان تتدفق معها قدرة مواجهة الزمن ومتغيراته بالله الحى نفسه وليس بمجرد معلومات أو تعليمات مكتوبة . والكلمة كذلك هى سراج لخطوات الإنسان (مز 119 : 105) ، ونور لطريقه ، فهى تنير الضمير وتجعله قادراً على الحكم على صلاح الأمور أو فسادها ، وتعطيه إستنارة العقل والكيان ، وتقوم أعوجاج الذهن الذى أفسدته الخطية ، فيصير مهيئاً لصناعة القرار الصالح . |
ثانياً : الكلمة المقدسة بين الثوابت والمتغيرات : |
هناك فى كلمة الله حقائق علينا أن نكتشفها ونحيا بمقتضاها ، لا تقتل إلا الإيمان بها والتسليم لها ، وتحتاج إلى الأسنارة والفهم والأستفهام بلغة أمنا العذراء القديسة مريم التى سألت الملاك بأتضاع جم " كيف يكون هذا " (لو 1 : 24) فأجابها وشرح لها حق النبوة وسر الرسالة والتكليف الإلهى بحلول الروح القدس عليها ... فما كان منها إلا أن قبلت بتسليم يستدعى التعجب والدهشة "هوذا أنا أمة الرب لتكن لى كقولك " (لو 1 : 38) . من هذه الحقائق والثوابت : وحدانية الله ، الثالوث الأقدس ، الوحى الكتابى ، الفداء والصليب والقيامة ، والكنيسة وأسرارها ، مواهب الروح ، القيامة والمجئ الثانى ، الأبدية ... لكن بجوار هذه الثوابت ، توجد مساحة فضفاضة " لمتغيرات كثيرة " ... وكلمة متغيرات هنا لا تعنى أبداً إضافة أو تعديل على كلمة الله ... حاشا . فالكتاب صريح جداً "أن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة فى هذا الكتاب ، وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة يجدف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ، ومن المكتوب فى هذا الكتاب "(رؤ22: 18،19) أنما المقصود هنا هو قراءة الكلمة بالروح وليس بالحرف ، حيث أن التمسك بحرفية النص لازم أنما فى حدود الحفاظ على أمانة التعليم وحق المسيح المسلم مرة للقديسين ... لكن النزول بالكلمة إلى مستوى الحرفية يعود بنا إلى عصر الناموس ونيره حيث كانت الكلمة جامدة ومدونة على ألواح حجرية (2 كو 3 : 3) ... فى هذا العهد كان الذهن العتيق يحكم قراءة الكلمة ، والبرقع كان لا يزال موضوعاً على وجوه القارئين والسامعين معاً ، فكانت القراءة بدون دخول لعمق الروح وهدف الوصية الأمر الذى أبعدهم تماماً عن قصد الله من الكلمة ... فمثلاً ... ما الذى يعنيه الفريسى المتمسك بتقديم العثور حتى أبسط أنواع الطعام "النعنع والشبث والكمون " وفى نفس الوقت يتخلى عن رحمة أخيه المخلوق على صورة الله (مت 23:23) . لهذا الحد أبعد الحرف الوصية عن هدفها ... فالهدف الأصلى هو التدريب على العطاء والخروج نحو الآخرين وليس مجرد الألتزام باحضار اعواد النعناع إلى الهيكل بكل دقة !! "فالسبت قد جعل إذن لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت " (مر 2 : 27) من هنا نحن ندعو إلى قراءة وصايا الأنجيل بروح الفهم وتطبيقها على تفاصيل الحياة بشكل عملى حى ، لئلا تتحول الوصايا غير المشروحة على رصيد الروح ومن نبع الفكر الأبائى الكنسى إلى أعباء لا يمكن مواجهة الحياة بها ... وهكذا يمكن أن ينطبق علينا قول السيد " يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم " (مت 23 : 4 ) . نقطة أخرى : المتغيرات اليومية المتلاحقة التى نواجهها فى زماننا المعاصر تحتاج إلى روح الله العامل فى الكنيسة جماعة وأفراد ، إكليروساً وعلمانيين لنشرح متطلبات الحق الإلهى حسبما يتناسب مع هذه الظروف فأيام السيد المسيح بالجسد لم نكن نعرف التطور التكنولوجى الرهيب الذى أضيف للعالم فى هذه الأيام : vفقد أنتشرت وسائل الأعلام مسموعة ومقرؤة ومرئية جعلت الكرة الأرضية قرية صغيرة . وأتسعت الثقافة وتبسطت وسائل الحصول عليها بحيث صار ما يعرفه الطفل اليوم يتفوق على ما كان يعرفه البالغ سابقاً . وأضيف للحياة اليومية اختراعات لا تعد ولا تحصى . وبين تعدد الأضافات يحتاج الإنسان إلى حكمة وفهم قلب (1 مل 3 : 9) . "ليميز بين الخير والشر واحياناً بين الشر وشبه الشر (اتس 5: 22) ... والصلاة ، مع القلب المتضع والأرشاد الروحى الكنسى المملؤة نقاء هو الطريق الأمين لهذه الحكمة ... |
ثالثاً : الأنجيل والتكيف اليومى مع العصر : |
الأنجيل يحوى دعوة صريحة حية للتطور والطموح : فهو إنجيل النور الذى يهزم الظلمة (يو 1: 5) ، والقيامة التى تغلب الموت ... أنه أنجيل الحياة الأفضل (يو 10 : 10). والأنجيل يبنى "الإنسان" ويجعله قادراً على مواجهة الزمن . والكلمة تسبق كل عصر بل وتتفوق عليه لأنها سمائية لا نهائية ابدية ... من ناحية أخرى ، الإنسان هو الإنسان كان غلاماً بسيطاً أو عالماً كبيراً ، سواء كان حياً فى القرن الأول أو القرن العشرين هو بعينه الذى يؤمن بنفسه ويثبت بإرادته ، ويتحدى طاعة لوصية وهو بعينه الذى سيظل يحتاج إلى محبة وغفرانه ومعونته . وكذلك الزمان وما فيه من متغيرات ... فلن يتغير مضمون الأحداث : ستظل كل طاقة تحوى بين طياتها الخير والشر والإنسان هو المحرك الأول لهذا الأختراع وهذا التقدم يمكنه أن يخرج منه الخير والبركة ويمكنه أن يخرج منه الفساد والأثم سواء كان هذا لأختراع بنائياً كالجاروف والشادوف أو مذهلاً كالقمر الصناعى وغزو الكواكب !! إذن الأنجيلل هنا لا يجادلنا فى صلاحية الأشياء لأنها لا يمكن أن تنبعث بالصلاح ... فالشر كائن فى العالم والخير كائن فى العالم والخير كائن فى الله . وعلى الإنسان أن يستدعى حضور الله ليواجه به كل معطيات العلم الحديث ويسخرها لخدمته ولخلاص نفسه وأمتداد الملكوت تطبيقاً للوصية التى اعطيت للإنسان كسيد للخليقة : إملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض (تك 1 : 27 ، 28) . الأنجيل هو لذلك دعوة للأستفادة من كل معطيات العصر وعلومه فهى سر بركة الإنسان إذا تعلم كيف يسخرها لنفسه بروح الله : فالزمن خاضع للإنسان المسيحى . ولماذ كائن تحت قدميه . والعقل هو هبة الله وعطيته وكل إضافة للإنسانية هو ذخيرة من عمل الله فى خليقته لخيرها ونموها . بل أن دور المسيحى يتخطى مجرد الأستفادة من علوم العصر إلى تطهيرها بالروح لحساب الملكوت!! فهو لا يدرى فقط الكمبيوتر – مثلاً – ولكنه بروح الخدمة يساعد الآخرين على تعلمه والأستفادة من تسهيلاته الكثيرة ، ويقدم لهم نموذجاً حياً للحب والسند والذكاء والأمانة ، تتحول إلى طاقة حب وكرازة ... وينطبق ذلك على كل علوم العصر الحديثة التى تتحول إلى أبواب خدمة لا تنضب نربح بها الأكثرية للملكوت التراجع عن العصر اذن هو تقوقع وإنزواء وغياب للفهم .. فالمسيح جاء " مولوداً فى الزمن "، ومن الإنسان أخذ صورة عصره ، متكلماً لغته ومتطبعاً بطباعه وخاضعاً لناموسه (غلا 4 : 4) ، ذلك ليقدس المادة وكل ما سيحدث منها ... ولو كان السيد جاء فى زماننا لجاء فى صورة عصره ومتكلماً بلغتنا ومستخدماً أساليب حياتنا المعاصرة . دعوة الأنجيل اذن هى سيادة الإنسان على الزمان والمادة واستثمارها ... أيا كان نوعها وحجمها وتطورها ... لحساب الإنسانية ونموها ولخلاصها الأبدى ... هى دعوة "للطبيب" أن ينكب على دراسته ليصير متابعاً لأحداث ما وصل إليه العلم فيقدم راحة للأجساد المتعبة ومنها شفاء للأرواح السقيمة تمهيداً لخلاصها وارتباطها بالمسيح . وهى دعوة " للمهندس " أن يصير على قمة الرقى بالحضارات "والتكنولوجى" ليخدم الإنسان ويقدم له وسائل الراحة وهو بذلك بمهد لقبوله رسالة الكرارزة والفرح بالله الذى أحبه فسخر له الأشياء . وهى دعوة لكل متخصص وعامل ودارس ان يحول فتات الزمن الساقط من مائدة الأبدية إلى جهد وبذل وسهر وتعب ، لأجل الآخرين وسعى لأخضاع كل العلم والكون لله . تمهيداً لخضوع الأرض ومن عليها لسيد الأرض كلها فى الأبدية . |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق