09‏/05‏/2009

مثاليـــة المسيـــح وشخصيتــه المتكاملـــة


بقلم قداسة‏ :‏ البابا شنودة الثالث




عندما نتأمل في شخصية السيد المسيح له المجد نجد أنها شخصية مثالية متكاملة في الفضائل والصفات فقد كان يتصرف بحكمة سامية‏، كما قيل في سفر الجامعة لكل شيء تحت السماوات وقت‏.‏ فكان يقوم بالعمل المناسب في الوقت المناسب‏.‏ لا يسلك بوتيرة واحدة في كل حال ومع كل أحد‏.

وهكذا كان يعرف متي يشفق ومتي يؤدب، ويكون في تأديبه شفقة‏.‏
ويعرف متي يتكلم ومتي يصمت‏,‏ ويكون في صمته حكمة وموعظة‏..‏ متي ينظر في حنو‏,‏ ومتي ينظر في غضب؟ متي يستخدم القوة‏,‏ ومتي يستخدم اللين؟ وعموما كيف يتصرف مع كل نوع من الناس‏.‏ وهكذا كان الشخصية المتكاملة في أسلوب عملي‏,‏ يجمع بين صفات تبدو مختلفة عن بعضها البعض‏.‏ ولكنها منسجمة في تناسق عجيب‏.‏

كان يجمع بين الخلوة‏,‏ والعمل لأجل الآخرين كان يجمع بين حياة التأمل‏,‏ وحياة العمل‏.‏

وحياة التأمل كانت له علي الجبل‏.‏ والجبل في حياة السيد المسيح له مكانته ووضعه‏ والحديث عنه يلزمه مجال أوسع‏، ومن أشهر أماكن خلوته‏,‏ كان جبل الزيتون‏،‏ وبستان جثسيماني‏.‏ لذلك ما أعمق ما قيل عنه في الإنجيل مضي كل إلي خاصته‏.‏ أما يسوع فمضي إلي جبل الزيتون‏(‏ يو‏8:1)‏
علي الجبل‏,‏ كان يسكب محبته للآب السماوي‏.‏ وفي المدينة كان يفيض بمحبته علي الناس‏.‏ وقيل عنه أنه كان يجول يصنع خيرا‏,‏ ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس ‏(‏أع‏10:38).‏ كان يعلم في مجامعهم‏,‏ ويكرز ببشارة الملكوت،‏ ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب‏(‏ مت‏:4:23)..‏ يقدمون إليه جميع المرضي بأنواع أمراض كثيرة، فكان يضع يديه علي كل واحد منهم فيشفيهم‏(‏ لو‏4:40).‏ كان يعلم‏.‏ ويفتح أعين العميان‏,‏ ويقيم موتي‏..‏ وكان كل من يقابله‏,‏ ينال منه بركة‏.‏ فأحبه الجميع‏.‏

كان السيد المسيح يجمع بين العظمة والتواضع
كان يجمع بين الهيبة والوقار من جهة‏، والبساطة من جهة أخري‏..‏ كانوا في هيبته يدعونه يا معلم أو أيها المعلم الصالح أو السيد‏..‏ البعض كان يستمع إليه وهو جالس عند قدميه، والبعض كان يسجد له‏..‏ وكانت له مكانة كبيرة عند الناس‏، وتوقير واحترام‏، وشعبية هائلة جدا‏..‏ وفي عظمته وقف في نور عظيم‏,‏ متجليا علي جبل طابور‏(‏ مر‏9)‏ ومن جهة التواضع‏، أخلي ذاته وأخذ شكل العبد‏ (‏ مت‏2:7)‏ وأنحني وغسل أرجل تلاميذه‏(‏ يو‏13).‏ وسلك في بساطة مع الأطفال‏.‏ وحضر موائد العشارين والخطاة‏.‏ وحينما كانوا يلومونه علي ذلك كان يقول لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي‏..‏ لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلي التوبة ‏(‏ متي‏9:13,12)‏

وفي تكامل شخصيته‏,‏ كان المسيح أيضا يجمع بين الوداعة والحزم‏:‏
كان وديعا ومتواضع القلب‏(‏ متي‏11:29).‏ قيل في وداعته أنه كان لا يخاصم ولا يصيح‏,‏ ولا يسمع أحد في الشوارع صوته‏.‏ قصبة مرضوضة لا يقصف‏,‏ وفتيلة مدخنة لا يطفيء‏(‏ متي‏12:20,19).‏ كان رقيقا شغوفا إلي أبعد حد‏.‏ وفي رقته،بكي علي أورشليم ‏(‏ لو‏19:40).‏ وبكي في طريقه إلي قبر لعازر‏(‏ يو‏11:35)‏
وفي وداعته أيضا‏,‏ تحدث مع السامرية دون أن يخدش شعورها‏(‏ يو‏4)‏ وبنفس الوداعة تحدث مع الخاطئة المضبوطة في ذات الفعل‏ (‏ يو‏8)‏ بكل رفق‏...‏

ولكن وداعته لم تمنع حزمه‏.‏ وهكذا في حزم وشدة‏,‏ طرد الباعة من الهيكل‏,‏ وقلب موائد الصيارفة‏.‏ وقال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعي‏,‏ وأنتم جعلتموه مغارة لصوص‏(‏ متي‏21:13)‏ وبنفس الحزم وبخ الكتبة والفريسيين‏(‏ من علماء اليهود‏).‏ وقال لهم ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون‏,‏ لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس‏.‏ فلا تدخلون أنتم‏,‏ ولا تدعون الداخلين يدخلون‏(‏ مت‏23:13).‏ كما وبخ الصدوقيين قائلا لهم تضلون إذ لا تعرفون الكتب‏(‏ متي‏22:29)‏
كما وبخ اليهود أكثر من مرة علي حرفيتهم في حفظ السبت‏.‏ وكان يتعمد أن يجري بعض معجزاته في يوم سبت‏,‏ كما فتح عيني المولود أعمي في يوم سبت‏(‏ يو‏9)‏ وأقام لعازر من الموت في يوم سبت‏(‏ يو‏11).‏ وشفي مريض بيت حسدا في يوم سبت‏.‏ وذلك ليريهم أنه يمكن يحل عمل الخير في السبوت‏(‏ متي‏12:9‏ ـ‏13)‏
وأحيانا كان يوبخ تلاميذه علي أخطائهم‏,‏ علي الرغم من محبته الشديدة لهم‏.‏

أيضا كان في تكامل شخصيته‏,‏ يعرف متي يتكلم ومتي يصمت
كان إذا تكلم يقنع‏.‏ وإذا حاور يفحم ويبكم‏.‏ وكثيرا ما كان يتكلم كمعلم‏.‏ وكانوا يبهرون من تعليمه‏(‏ مت‏7).‏ كان في حديثه كلام منفعة‏، ووعظ وتعليم‏.‏ كان أحيانا يتبسط في التعليم‏، ‏ ويلقيه أحيانا في هيئة أمثال‏.‏ وأحيانا أخري يتكلم بسلطان‏(‏ مت‏7:29).‏ ويقدم التعليم كقاعدة ملزمة‏..‏ وكثيرا ما كان يصحح المفاهيم القديمة‏,‏ ويبدأ بعبارة أما أنا فأقول لكم‏...(‏ متي‏5)‏
وأحيانا كان يصمت‏,‏ ويكون صمته أبلغ من الكلام‏ ، وفي صمته حكمة‏.‏ كما كان صامتا أثناء محاكمته أمام مجمع السنهدريم ‏(‏ متي‏26)‏ وأمام بيلاطس‏(‏ متي‏27)‏

كان أيضا يعرف متي يمنح‏,‏ ومتي يمنع
كان في منحه كثير العطاء‏.‏ فمنح تلاميذه أنواعا من السلطان والمواهب‏.‏ ومنح مكانة للطفل وللمرأة‏، مما لم يكن معروفا لدي اليهود‏.‏ وفتح باب الملكوت أمام الكل، وبخاصة للأمم وللسامريين الذين ما كان اليهود يتعاملون معهم‏(‏ يو‏4:9).‏ ومنح شفاء للمرضي، وعتقا للمأسورين من الشياطين‏,‏ وكذلك عطفا علي الضعفاء والمساكين‏,‏ ومغفرة للخطاة‏(‏ لو‏7)(‏ يو‏8)(‏ مر‏2).‏ وبركة للكثيرين‏...‏
وكما كان يمنح‏,‏ كان أحيانا يمنع‏.‏ مثلما منع الكهنوت عن كهنة اليهود في أيامه‏.‏ وقال لهم إن ملكوت الله ينزع منكم‏,‏ ويعطي لأمة تصنع ثماره‏(‏ مت‏21:43).‏ وكما رفض طلب الكتبة والفريسيين في أن يصنع لهم آية‏(‏ أي أعجوبة‏).‏ وقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطي له‏(‏ مت‏12:39)‏

وكما كان المسيح رجل الجماهير‏,‏
كان كذلك يهتم بالفرد الواحد
كانت تتبعه الآلاف‏,‏ وتزدحم حوله الجموع والجماهير‏.‏ وفي معجزة إشباع الجموع من الخمس خبزات‏,‏ قيل عن الجموع الذين حوله أنهم كانوا خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد‏(‏ مت‏14:21)‏ أي نحو‏12‏ ألفا‏.‏ وفي معجزة شفائه للمفلوج‏,‏ كان الزحام شديدا حول البيت لدرجة أنهم أنزلوه إليه من السقف‏(‏ مر‏2:4)‏
وفي عظته المشهورة علي الجبل‏,‏ قيل في مقدمتها انه لما أبعد الجموع صعد إلي الجبل‏(‏ مت‏5:1)‏

وعلي الرغم من أزدحام الجموع حوله‏,‏ كان يهتم بالنفس الواحدة‏.‏ ففي قصة زكا العشار‏,‏ كان الزحام شديدا جدا‏,‏ لدرجة أن زكا صعد إلي جميزة لكي يراه‏.‏ فمن وسط هذا الزحام‏,‏ قال له السيد يا زكا إسرع وانزل، لأنه ينبغي أن أمكث في بيتك‏.‏ ولما تذمر اليهود علي دخوله إلي بيت رجل خاطيء، قال لهم اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضا ابن لإبراهيم‏,‏ لأن ابن الإنسان جاء يطلب ويخلص ما قد هلك‏(‏ لو‏19:1‏ ـ‏10)‏
وترك الجموع ليبحث عن الواحد الضال تكررت في‏(‏ لو‏15).‏ وبحثه عن النفس الواحدة‏,‏ ظاهرة في لقائه مع نيقوديموس‏,‏ ومع المرأة السامرية‏,‏ ومع مريم ومرثا‏...‏

وفي الحديث عن الشخصية المتكاملة للسيد المسيح‏,‏ نذكر بعض أمثلة منها‏:‏
جمعه بين العدل والرحمة‏ ، بغير تناقض بينهما‏.‏ فكان رحيما في عدله، وعادلا في رحمته‏.‏ كان عدله مملوءا رحمة‏، ورحمته مملوءة عدلا

أيضا اهتمامه بالروح والجسد‏.‏ فمع اهتمامه الكبير بالروح‏، لدرجة قوله الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة‏(‏ يو‏6:63، كان يهتم جدا بالجسد وشفائه‏(‏ مت‏9:12)‏
كان مدققا في تنفيذ أوامر الشريعة‏.‏ ولكنه في نفس الوقت، كان يهتم بمفهومها السليم، وبروحانية الوصية وليس مجرد حرفية الوصية‏.‏

لقد ترك السيد المسيح لنا نموذجا نسير عليه في تكامل الشخصية‏,‏ حتي نسلك حسب مثاله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق