01‏/02‏/2010

النزاع الدينى: قراءات.. وملاحظات.. ورؤية للمستقبل


مقالة للاستاذ ..سمير مرقس
في جريدة الشروق المصرية 2010/2/1
القارئ لتاريخ المجتمعات التى شهدت قدرا من التطور، يمكنه أن يدرك بسهولة ويسر كيف أن انتظام هذا التطور كان يقع عاتقه على المعاصرين من رجال الفكر والسياسة وأهل الاختصاص فى وضع الرؤى والتصورات التى تجعل من التقدم حقيقة.. وفى نفس الوقت كيف يمكن التصدى لكل ما من شأنه إعاقة التقدم.. وذلك بالاجتهاد فى وضع الحلول الناجزة بمنهج مستقبلى يضمن التقدم للأجيال القادمة وليس الحلول المؤقتة والتسكينية. بيد أن بقاء القضايا المطروحة منذ عقود هى نفسها المطروحة إلى الآن، هو أمر يحتاج إلى وقفة حاسمة.. والأكيد أن هناك آلاف الأسطر قد سطرت منذ تقرير لجنة العطيفى (المضبطة 13، نوفمبر1972) أى منذ سبعينيات القرن الماضى، تحمل الكثير والكثير حول مواجهة تداعيات أحداث «الإثارة الطائفية» إذا ما استخدمنا التعبير الذى جاء فى التقرير، ولكن لم تتم الاستجابة لما تضمنته من أفكار ومقترحات.. وظل الحسم مؤجلا.. وهو ما أدى بشكل مباشر وواضح إلى ما حدث فى نجع حمادى من قتل عشوائى لمواطنين مصريين مسيحيين.. والسؤال كيف يمكن أن نتعامل مع ما جرى هذه المرة بشكل مختلف وحاسم وجذرى؟

إعطاء الأولوية للثقافى المدنى

دأبنا على مدى العقود الأربعة الماضية، أن نعطى أولوية للحلول البيروقراطية والدينية على حساب ما يمكن أن نطلق عليه الحلول الثقافية والمدنية.. لم يكن هناك ما يمنع أن يجتهد المجتهدون من مثقفين وكتاب ومختصين ونشطاء..ولكن فى الأغلب لا يلتفت لعائد هذا الاجتهاد إلا فيما ندر.. ويعود الأمر فى النهاية إلى الجهة البيروقراطية والدينية لتتحمل وحدها دون غيرها الأمر.. وظنى أنه آن الأوان كى نعطى الفرصة للحلول ذات الطابع الثقافى والمدنى..هذا بالرغم من أن الواقع المصرى يشهد حالة من الاستقطاب غير مسبوقة بين عناصره ومكوناته على كل المستويات.. وهو ما يصعب الأمر ولكن لا بديل عن أن يكون هناك تواصلا بين كل عناصر المجتمع فى محاولة ترميم ما أصاب الوطن من انقسام ناعم وصلب.

ولعل المهمة الأساسية التى لابد من إنجازها هو استعادة كل الاجتهادات التى طرحت على مدى عقود وتمثل حصادا معتبرا للعقول المصرية على اختلاف انتماءاتها، بداية من تقرير العطيفى مرورا بتقرير مريت غالى والعديد من الكتب والدراسات والمقالات وحصيلة الندوات المتعاقبة، كذلك الاطلاع على المعالجات المختلفة التى تمت فى أعقاب حادث نجع حمادى، لما يمثله من تحول نوعى خطير فى مسيرة التوتر الدينى فى مصر من جهة، وباعتبارها تعكس ما آل إليه الواقع السياسى من علاقات وتفاعلات بين الأطراف المختلفة من جهة أخرى.

قراءة فى المعالجات التى تناولت ما جرى فى نجع حمادى

تقول القراءة الأولى لعديد مما كتب عن نجع حمادى إن هناك اتفاقا عاما بين الجميع، على اختلاف الاتجاهات السياسية والفكرية، على إدانة ما جرى.. وحرصت جميع الكتابات ــ تقريبا ــ التى تناولت الموضوع على استخدام أوصاف تجسد بشاعة الحادث.. فتعددت الأوصاف، ووجدنا كلمات من نوعية: الجريمة، الواقعة، الكارثة، المجزرة، المذبحة، القارعة..الخ

كما اتفق الجميع على أهمية اتخاذ إجراءات حاسمة تتصدى ــ ليس فقط لتداعيات ما جرى فى نجع حمادى ــ وإنما لتأخر التعامل مع إشكالية العلاقة بين المسلمين والمسيحيين منذ مطلع السبعينيات وإلى الآن، أى على مدى أربعين سنة متواصلة.. والتى تطورت فيها هذه الإشكالية كما أوضحنا فى مقالنا السابق فى أربع مراحل: مرحلة العنف الدينى المسلح من قبل جماعات مسلحة، ثم مرحلة الاحتقان المجتمعى، والتى تلتها مرحلة السجال الدينى وأخيرا مرحلة التناحر القاعدى.

وانطلاقا من قاعدة الاتفاق على إدانة ما جرى فى نجع حمادى، تعددت المعالجات والتى يمكن رصدها فى أربع معالجات: الدينية، والسياسية، والمجتمعية، والتاريخية.. البعض عالج المعضلة معالجة أحادية المنظور، والبعض جمع بين أكثر من معالجة فى المقال الواحد.. وإذا ما استعرضنا كل معالجة على حدة سوف نجد ما يلى:

المعالجة الدينية:

التصلب هو السمة التى يمكن أن نراها فى هذه المعالجة.. فغالبية الكتابات التى انطلق فيها أصحابها من على أرضية دينية، سوف نجدها وقد مالت إلى التصلب..نعم أدانت الحادث ولكنها تأبى أن يكون ذلك مقدمة لإضعاف الدين.. فمن ينتمون إلى التيار الإسلامى أخذوا يطرحون سؤالا أساسيا: هل تلبية مطالب الأقباط تعنى إضعاف الإسلام وحصاره.. وعلى الجانب الآخر بات المسيحيون يعتبرون أن الأسلمة بمظاهرها الحالية تباعد بين المصريين من أبناء الدينين وتمثل أساسا للتمييز وخصوصا مع تكرار أحداث العنف المادى.

المعالجة السياسية:

اتسمت المعالجة السياسية، ولاعتبارات كثيرة، بأنها معالجة ملتبسة، حيث تدخل الانتماء السياسى فى تحديد موقف الكاتب فى تأكيده على فردية الحادث أو العكس،أو اتهام طرف بعينه دون غيره،أو حرصه على التهدئة أو الدفع نحو مزيد من التحريض.. لكن هذا لم يمنع من أن الكثيرين وهم يعالجون الأمر قد فتحوا العديد من القضايا الجديرة بالنقاش، على الرغم من أن بعضه تم فى سياق التنافس السياسى بين أطراف اللعبة السياسية...

المعالجة المجتمعية:

وهى معالجة فرضها السياق المجتمعى للحادث،مما أدى إلى التوسع فى تناول العديد من الجوانب.. حول دور البيئة فى تأجيج التوتر الدينى والوصول به إلى حد النزاع.. والعلاقة بين الفقر وغياب التنمية وحدوث الاضطرابات بين المختلفين.. وعن الدولة وأدوارها المفترضة.. وعن دور المؤسسات الدينية وتجاوزها لمهامها.. وعن الممارسة السياسية التى ترتكز على القبلية والعشائرية وتعكس حداثة افتراضية..

المعالجة التاريخية:

وهى المعالجة التى حاول أصحابها استلهام التاريخ فى فهم الظروف التى تسهم فى كل من ظهور أو اختفاء التوتر الدينى.. ودراسة العوامل التى مكنت فى لحظات تاريخية أن تحقق مصر قدرا من الشراكة الوطنية والاندماج، والعكس.

ملاحظات أساسية

تشير القراءة الأولية لما كتب على مدى الأسبوعين الماضيين إلى عدة ملاحظات يمكن إجمالها فى الآتى:

تولد إحساس لدى الجميع بأن هناك واقعا مأساويا لا يمكن التعايش معه، وهو ما تجلى فى الأوصاف التى تم بها وصف ما حدث فى نجع حمادى وهو أمر إيجابى ولاشك، وأنه حادث يستحق الانتباه حيث لم يعد التسويف فى المواجهة مقبولا،
كلما اقتربت المعالجات من المجتمعى والتاريخى كلما اتسع المشترك بين الناس وهو فى ذاته أمر يستحق الإشارة لأنه يعنى أن هناك ما يمكن أن يجتمع الناس حوله وينطلقون منه بالرغم من التصلب الذى لدى البعض هنا أو هناك،
أن المقاربات السياسية وبالرغم من التحيز ــ وهو أمر طبيعى ــ وعلى الرغم من الحسابات الضيقة أحيانا إلا أنها لم تستطع أن تتغافل عن أن ثمة ما يقلق فيما حدث من جانب، ومن جانب آخر فتحت أهمية الدراسة التاريخية بما ينعش الذاكرة التاريخية الوطنية.

الاتفاق على الابتعاد بملف العلاقات بين المواطنين المسلمين والمسيحيين عن اللعبة السياسية وحسابات الاستحقاقات السياسية المقبلة عليها مصر.

على الرغم من التراوح فى التعامل مع الأقباط كمواطنين أو كجماعة دينية إلا أن الإيجابى هو أن هناك اتفاقا على ضرورة استعادة الأقباط وهو لن يتأتى إلا بالحرص على تواجدهم السياسى والمدنى وهو ما يحتاج إلى يبادروا بالخروج من عزلتهم الآمنة..

فى تجديد الشراكة الوطنية

إن الأساس الفكرى الذى يمكن أن ننطلق منه لتجديد الشراكة الوطنية بين المصريين من المسلمين والمسيحيين هو الاتفاق على أن الأساس فى الاجتماع الإنسانى هو الاختلاف والتعدد وليس التماثل والأحادية، وأن الرابطة التى تجمع غير المتماثلين (دينيا ومذهبيا وعقائديا وبالطبع سياسيا وفكريا) هى رابطة المواطنة.. والعمل على وقف التصنيف الدينى للمصريين فورا..فالمصرى مواطن بكفاءته وفاعليته وجهده من أجل تحقيق السعادة الوطنية لكل المصريين دون تمييز.. وفى هذا المقام يمكن أن نضع عناصر خمسة جاءت فى الكثير من الكتابات بشكل أو آخر تصلح كبداية لتجديد الشراكة الوطنية وذلك كما يلى:

وقف السجال الدينى بما يتضمن من: تجريح وإساءة وافتراء وإهانة.. الخ، فى كل الوسائل الإعلامية وإعمال ميثاق الشرف الإعلامى، وإدراك كل طرف أن حرية التعبير عن ما يؤمن به لا تعنى التطاول على الطرف الآخر، كما لا تعنى الاستعلاء والشعور بالأفضلية فهذا أمر يترك للديان العادل، وتأكيد مبدأ «المواطنة الثقافية»، وتعنى المساواة الكاملة بين المواطنين فيما يعتنقون، واحترام كل طرف لخصوصيات ومشاعر ورموز ومقدسات الطرف الآخر الدينية، والاستفادة من المبدأ الدستورى الخاص بحرية العبادة وإقامة الشعائر الدينية (المادة 46) باستصدار مجموعة من القوانين المنظمة للكثير من الموضوعات العالقة والتى تندرج تحت هذه المادة. والتمييز بين المشكلات الدينية الطابع مثل بناء دور العبادة وهنا يمكن أن تتواصل المؤسسة الدينية مع المعنيين لحل هذه الإشكالية وفق معايير وضوابط يتفق عليها (كما حدث فى موضوع الأوقاف)، وبين المشكلات ذات الطبيعة المدنية التى تواجه المواطنين فى حياتهم اليومية فى إطار المجال العام والسياسى وحلها وفق المعايير المدنية،تأكيدا على الصفة المواطنية للمواطنين وليست الدينية..

الالتزام بإعمال القانون باعتباره أحد مقومات التى تقوم عليها الدولة الحديثة،والقناعة بأن أى تفريط فى هذا الأمر لصالح العرفى والعشائرى يعنى تفريط فى الدولة الحديثة والأخذ بما يناقض جوهر وجودها.

العناية بالتعليم والإعلام،حيث يتضمن كل منهما: التعليم قيم واتجاهات، والإعلام رسائل إعلامية وبرامج، تؤكد على القيم والاتجاهات والسلوكيات التى تؤكد على أن عبقرية مصر تكمن فى غناها الثقافى..انطلاقا من أن مصر مركب ثقافى متعدد العناصر وقوته فى تآلفها.

العمل عل مواجهة الانسداد السياسى وبذل كل الجهد لاستعادة المواطنين إلى المجالين «العام»، و«السياسى»، وتشجيع الانتظام فى الروابط والجمعيات والنقابات على أسس سياسية وفكرية ومصالحية وليس دينية.. والتأكيد،كما قلنا مرة، على أن المصرى المسيحى يمكنه أن يجد ما يربطه بالمصرى المسلم روابط أخرى غير الرابطة الدينية، مثل الروابط: المهنية والطبقية..الخ

بما سبق يمكن أن تتجدد الشراكة الوطنية على أسس المساواة والتكافؤ والعمل المنتج وإعمال القانون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق