بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
فمن جهة الصلاة كثيرون يصلون، ولكن ليس كل إنسان يصلى بعمق وتكون صلاته مقبولة. وهنا يعجنى قول المرتل "من الأعماق صرخت إليك يارب" يقصد صرخت إليك من عمق القلب والعاطفة، من عمق الاستغاثة، وأنا فى عمق ضعفى وعجزى وعدم قدرتى. من عمق قلبى طلبتك. من عمق الإيمان والثقة بأنك ستستجيب.
فليس المهم إذن فى طول الصلاة وإنما فى عمق المشاعر التى فيها. والصلاة التى بعمق فيها شعور بالصلة بالله. وهى صلاة بعاطفة وبفهم وتأمل وتركيز، صلاة بحرارة، وبإيمان... صلاة بروح وليست مجرد ألفاظ. فليس المهم فى الصلاة مقياس الطول، بل مقياس العمق. هكذا ينبغى أن تكون صلواتنا، ونحرص أن تخرج من أعماقنا. ومن أمثلة الصلاة التى بعمق، صلاة إنسان مريض بمرض خطير، وهو فى ساعاته الأخيرة وعلى حافة الموت. أنه حينما يصلى فمن أعماقه يتطلع إلى أبديته كيف تكون، أنها صلاة مصيرية لذلك تقال بعمق.
إن عملاً واحداً من أعمال الخير يعمله الإنسان بعمق، ربما توزن حياته كلها. ويبقى هذا العمل خالداً، ويسجل فى التاريخ من أجل عمقه. مثال ذلك العمق الذى قدم به أبونا إبراهيم ابنه كمحرقة أمام الله. إنه كان فى تقدمته هذه فى عمق المحبة لله، وفى عمق الطاعة له، وفى عمق التسليم للإرادة الإلهية. كان فى أعماق شعوره يحب الله أكثر من ابنه الذى ناله بعد صبر سنوات طويلة.
ومن أمثلة العمق فى العطاء أيضاً من يقدم عشور أمواله إلى الله، وهو فى منتهى العوز والاحتياج، أو يقدم بكور مرتب كان ينتظره منذ زمن ليسدد ديونه... ومن عمق العطاء أيضاً من يقوم بخدمة غيره أو اعانته فى أهم أيام الأمتحانات، وهو فى حاجة إلى كل دقيقة... أو الذى يقدم أحد أعضاء جسده، تبرعاً لمريض محتاج إليه، حباً فى هذا المريض واشفاقاً عليه... ومن عمق العطاء أيضاً الذى يستدين ليعطى إنساناً معوزاً.
أما من جهة العمق فى الخدمة، فنذكر أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد شعبها من أكلة لحوم البشر، لكى يدعوهم إلى الإيمان. وهناك أمثلة عديدة لأشخاص أبرار كانت لهم خدمات عميقة، وهم لم يكونوا من رجال الدين، ولا ممن يعظون على المنابر. بل كان لهم العمق فى العمل الفردى، وكان كل من يلتقى بهم يجذبونه إلى محبة الله، ويلهبون قلبه بكلمات النعمة التى تخرج من أفواههم. ومن أمثلة ذلك الذين يخدمون فى حل المشاكل العائلية، بكل تعب وعمق ومثابرة. وقد يقضى الواحد منهم أياماً طويلة، يسهر ويحاور ويقنع لكى يدخل سلام الله إلى البيت وتحل المشاكل. ومن أمثلة الذين يخدمون بعمق، أولئك الذين يعملون كل الجهد لجذب الأولاد المتسكعين فى الشوارع أو فى المقاهى أمام دور اللهو، ويحولونهم إلى أشخاص صالحين.
ومن أمثلة العمق: عمق الكلمة التى تأتى بفاعلية كبيرة. مثال ذلك إنسان يكلمك بكلمة نصيحة أو حتى كلمة تحذير. فتلمس هذه الكلمة قلبك، ولا تفارق ذهنك إطلاقاً. تتمشى معك فى الطريق، وتصاحبك فى نومك وفى صحوك. وتعمل فيك عملاً كثيراً. إنها كلمة قد خرجت من العمق، ووصلت إلى العمق. وكان لها تأثيرها وفاعليتها وقوتها. وأصبحت تعمل عملاً عميقاً مثلها.
العمق فى العبادة. كثيرون يهتمون بالمظهر الشكلى فى العبادة دون عمقها. فقد يقوم الإنسان بصوم يرهق فيه جسده، ولكن بغير عمق فى العمل الروحى أى فى الانتصار على النفس وفى ضبط الأرادة والحواس والفكر. ولا يكون لهذا الصوم أى تغيير فى حياته وطباعه وأخطائه. أما الذى يصوم بعمق روحى، وتصوم نفسه مع جسده، فهذا ينجح فى حياته الروحية.
كذلك نفس الوضع بالنسبة للقراءة الروحية وعمقها وتأثيرها. فليس المهم أن تقرأ كمية كبيرة. وإنما ما تتركه هذه القراءة فى نفسك من عمق وتأثير. ما أعجب الذين يكونون من علماء عصرهم فى الكتب المقدسة، ولكن ليس لهم عمق فيها، لا فى الفهم ولا فى التطبيق، ولم يستفيدوا شيئاً.
من جهة العمق فى التوبة: نقول أن كثيرين تابوا ورجعوا كما كانوا، لأن توبتهم لم تكن بعمق. أما الذين تابوا بعمق، فقد كانت التوبة نقطة تحول مصيرية فى حياتهم. لم يعودوا إلى الخطية مرة أخرى. بل تدرجوا من التوبة إلى النمو فى حياة البر حتى وصلوا إلى درجات عالية من السمو الروحى.إن الذين لهم خطايا يكررونها، لم يتوبوا بعد. والذين لا تصحب توبتهم مشاعر الإنسحاق والندم، والشعور بعدم الاستحقاق، هؤلاء ليس لهم عمق فى التوبة، وما أسهل رجوعهم إلى الخطية.
من جهة العمق فى الصداقة والحب. قد يوجد صديق لك تدوم صداقته أعواماً طويلة. ثم بسبب نقطة معينة أو وشاية، أو خبر غير صحيح قد سمعه، ينقلب ويتغير لأن صداقته لم تكن بالعمق الكافى ولا بالمحبة العميقة. أما المحبة العميقة فهى مثل محبة الأم لرضيعها. وأعمق مثال للمحبة، المحبة التى تبذل حتى ذاتها.
أما من جهة عمق الشخصية، فنقول إن الشخصية العميقة لها عمق فى التفكير والتدبير، وعمق فى الذكاء والفهم. الشخص منهم له ذكاء شمولى، يشمل كل شئ. إذا بحث موضوعاً، يفكر فيه من جميع زواياه، ويعمل حساباً لكل النتائج وردود الفعل. وإذا تكلم يتكلم بعمق. وكل مسئولية تعهد إليه، يتناول كل شئ فيها بعمق. وكذلك التلميذ الذى يذاكر بعمق، فأنه يذاكر بفهم وتركيز، وبعقل منتبه، لا ينسى. ليس المهم عنده عدد ساعات مذاكرته، إنما عمق الفهم والحرص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق