بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
هناك آداب كثيرة للحديث والمناقشة سنذكر في هذا المقال بعضاً منها:
إذا جلست لتتحدث مع مجموعة من الناس فلا تأخذ الجلسة كلها لحسابك الخاص. لا تحاول أن تكون المتكلم الوحيد، أو المسيطر على دفة النقاش. اعطِ فرصة لغيرك لكي يتحدث هو أيضاً، ويُعبِّر عن رأيه. ولا تُشعر أحداً أنه غريب في مجلسك، بل شجّعه وقُل له في مودة: ( يسرنا أن نسمع رأيك ).
حبَّذا لو كنت في الحوار آخِر المُتكلِّمين. وليكن لتأخرك في الحديث هدفان: هما الأدب والحكمة.
أمَّا الحكمة فهى لكي تكون لك فرصة في أن تدرس موضوع الحديث جيداً قبل أن تتكلَّم فيه مع الحاضرين. وأن تستعرض في ذهنك كل وجهات النظر وبراهينها وأسانيدها. حتى إذا ما تحدثت، يكون ذلك عن دراية ومعرفة. وتكون قد أعطيت غيرك فرصة للتعبير، وأعطيت نفسك فرصة للاستيعاب والتفكير.
أمَّا الأدب فهو أن تُفضِّل غيرك على نفسك. تُقدّمه عليك في الحديث احتراماً لرأيه،
أو لسنه، أو لرتبته في إبداء الرأي، أو لخبرته.
وفي هذا الأدب لا تحاول أن تُجيب بنفسك على كل سؤال، وبخاصة الموجَّه إلى غيرك. وانتظر إلى أن يتكلَّم الآخرون. وإن كان هناك ما يحتاج إلى إضافة، اذكره في إتضاع مع إحترامك لكل ما قيل من قبل.
في حديثك راعِ الدقة والدماثة. بهذا تكسب محبة السامعين واحترامهم، إذ تستأسرهم برقة أسلوبك. وهذه الرقة في الحديث تتمشى مع فضيلة الوداعة. والإنسان الوديع يتناقش بطريقة طيبة، ولا تصدر منه كلمة قاسية أو جارحة. وفي هذه الرقة أو الوداعة لا تحتد على أحد. ولا تتفاخر برأي حسن قد أبديته.
وإن سُئلت عن موضوع لم تدرسه، فلا تدعِ معرفتك بكل شيء. ويمكن أن تقول: ( أسف إنني لم أدرس هذا الموضوع جيداً ). وعلى رأي المثل: ( مَن قال لا أعرف فقد أفتى ).
ولا تظن أن قولك هذا يُقلِّل من كرامتك. بل على العكس يزيد الناس ثقة بما تقوله.
وطبعاً يقتفي الاتضاع الأدب، أنك لا تُقاطع غيرك أثناء حديثه، لا تسكته لكي تتكلَّم أنت.
فإن هذا يدل على عدم إحترامك لمحدّثك. ويحدث أحياناً إذا ما قاطعت غيرك في الحديث، أنه لا يقبل ذلك منك. ويُقاطعك هو الآخر. ولا يكون مستعداً لسماعك. وتتبادلان المقاطعة أنتما معاً بدون فائدة. وتختلط كلماتكما بطريقة مشوشة، وأسلوب مُعثِر للآخرين. ويبدو للسامعين أنكما لستما في حوار وإنما في شجار.
وإن كنت في حوار وأخطأ مَن تحاوره، فلا تكشفه بطريقة تحرجه أو تخجله. ولا تتهكَّم عليه. ولا تتعرض لأخطائه في قسوة. اظهر الرأي السليم في إيجابية ووقار دون أن تُحطِّم غيرك. خُذ الخير الذي في كلام محدثك وأترك الباقي. وامتدح النقاط البيضاء السليمة التي في حديث مَن أخطأ، قبل أن تتعرَّض للرد على أخطائه. وليكن كلامك كله في موضوعية وإيجابية.
إن كنت تعرف ما سيقوله مُحدثك، سواء كان ذلك في قصة أو فكاهة أو في اقتباس ما،
فلا تخجله وتسكته. بل استمع إلى كلامه في هدوء، كما لو كنت تسمعه لأول مرة.
واظهر إعجابك بما يستحق الإعجاب فيما تسمعه. ولا تسبقه بالكلام، أو تُكمِّل له ما يريد أن يقوله. فيضطر أن يقطع حديثه ويصمت في خجل.
لا يكن هدفك من النقاش أن تغلب الناس وتهزمهم. بل الأفيد أن تربحهم وأن تقنعهم. لا أن تخسرهم بكسب المناقشة. إنَّ بعض الناس يظنون أن الإنتصار يكون في تحطيم مناقشيهم، أو في إضحاك الناس عليهم! لكن الإنسان الناجح هو الذي يربح مَن يُناقشه، وبهذا يربح المناقشة.
إن القديس ديديموس الضريراستطاع أن يهدي إلى الإيمان كثير من الفلاسفة الوثنين، وذلك بأسلوبه المُهذَّب في الحوار معهم.
كُن دقيقاً في كلامك وفي اختيار الألفاظ. وهناك كلمات كثيرة يمكنك أن تستبدلها بغيرها، ويكون ذلك أفضل وأصوب، وأكثر دقة، وأيضاً يكون أخف وقعاً على آذان الناس وعلى قلوبهم، ويؤدِّي نفس المعنى دون أن تخطئ.
فكُن حكيماً في اختيار الألفاظ. وقل كل كلمة بميزان دقيق. ولا تبالغ، فالمُبالغة تتنافى مع الحق، وتكون مكشوفة وغير مقبولة.
ليكن كلامك بقدر. وحافظ على وقت مُحدِّثك. فلا يصح أن تطيل الكلام في موضوع
لا يستحق الإطالة فيه. أو في موضوع لا يهم مُحدّثك في قليل أو كثير. ولا تُطل الحديث مع إنسان يكون مشغولاً، والوقت غير مناسب، أو هو يريد أن ينهي الحديث. سواء كان صريحاً في ذلك أو يمنعه خجله. لذلك من الخير أن تبادر أنت بإنهاء الحديث في لياقة. ولا تنتظر أن يَملّ هو، أو يقلق بسبب مشغولياته الأخرى.
لا تكن كثير الشروحات أو طويل المقدمات وبخاصة إن كنت تتحدث مع إنسان ذكي يفهم بسرعة، أو مع إنسان قد أدرك تماماً ما تريد أن تقوله، وليس في حاجة إلى توضيح أكثر.
وإلا تصبح شروحاتك وإطالتك ضغطاً على أعصابه.
في حديثك مع الناس، لا تضغط عليهم في معرفة أسرارهم، أو أسرار غيرهم. ولا تكن لحوحاً في ذلك. واحترس جداً من الأسئلة التي تمس حياة الناس الخاصة. ولا تحاول أن تعرف ما ليس من حقك أن تعرفه، ولا ما يحرص غيرك على كتمانه. سواء كان ذلك فيما يتعلق به،
أو بأقاربه أو بأصدقائه أو بمعارفه.
ينبغي أن تحترم خصوصيات الناس. ولا تصر على كشف ما يريد غيرك أن يستره
أو يغطيه. فليس هذا نافعاً لك ولا لهم. وإن وجدته غير مستعد لما تريده منه، فلا تصرّ على طلبك، متجاهلاً أعصابه ونفسيته. إن كان عازفاً عن الإجابة، فلا بد أن هناك سبباً يدعوه إلى ذلك. فلا تضغط عليه.
في المناقشة إن وجدت الحق في الجانب الآخر، فلا تُغالط. فإن المغالطة تفقدك احترام الناس. ومن الخير لك أن تقول لمناقشك أنت على حق في هذه النقطة. وبهذا تكسب تقديره لك. أمَّا إذا كُنت صاحب الرأي الصواب، وتنازل مُحدثك عن رأيه، تتركه ينسحب دون إذلال،
ولا تحاول أن تريق ماء وجهه في إنسحابه. وهناك أمور من الأفضل أن تناقش فيها غيرك على إنفراد. وربما يعترف بخطأه أمامك ولا يستطيع ذلك أمام الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق