02‏/01‏/2010

لماذا حلَّ الرب بيننا؟



لقداسة البابا شنودة الثالث

لعلنا نتساءل فيما بيننا: ما هي الأسباب التي دعت رب المجد أن يتخذ جسداً ويحل بينن، ويصير في الهيئة كإنسان، ويولد من إمراة كبني البشر؟

لا شك أن الفداء هو السبب الأساسي للتجسد. جاء الرب إلى العالم ليخلص الخطاة، جاء ليفديهم، جاء ليموت وليبذل نفسه عن كثيرين. هذا هو السبب الرئيسي الذي لو إكتفى السيد المسيح به ولم يعمل غيره، لكان كافياً لتبرير تجسده. جاء السيد المسيح ليوفي العدل الإلهي، وليصالح السماء والأرض.

ويمكننا أن نقول أيضاً إلى جوار عمل الفداء والمصالحة إن السيد المسيح قد جاء لينوب عن البشرية. وكما ناب عنها في الموت، ينوب عنها أيضاً في كل ما هو مطلوب منها أن تعمله. إن الإنسان قد قصر في كل علاقاته مع الله، فجاء "الله الكلمة متجسداً" لينوب عن الإنسان كله في إرضاء الله.

وفي فترة تجسده أمكن للرب أن يقدم للبشرية الصورة المثالية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان كصورة الله ومثاله. قدم القدوة، والمثال العملي. حتى أنالقديس اثناسيوس قال إنه لما فسدت هذه الصورة التي خلق الله بها الإنسان، نزل الله ليقدم لهم الصورة الإلهية الأصلية...

وأيضاً لما أخطأ الناس في تفسير الشريعة الإلهية وقدموها للناس حسب مفهومهم الخاطئ، ومزجوا بها تعاليمهم الخاصة وتقاليدهم، جاء الرب ليقدم للبشرية الشريعة الإلهية كما أرادها الرب، نقية من الأخطاء البشرية في الفهم والتفسير.

وسنحاول الآن أن نتناول هذه الأسباب جميعها، نتحدث عنها بمزيد من التفصيل، ونري ما يمكن أن نستفيده من دروس روحية لحياتنا خلال هذا الشرح.

أتى المسيح لينوب عن البشرية

إنه ناب عنا في دفع ثمن الخطية، في الموت، فمات عنا. ولكن هذا لم يكن هو الشيء الوحيد الذي ناب عنا فيه. بل أنه ناب عنا في كل عمل صالح، في تكميلالناموس كله.، فصام وهو غير محتاج إلى الصوم، وإعتمد وهو غير محتاج إلى عماد، وهكذا دواليك. ولعل نيابة الرب عن الإنسان هي التي جعلته يسمي نفسه في أحيان في أحيان كثيرة "أبن الانسان"، مشيراً إلى أنه جاء نائباً عن الإنسان أو نائباً عن البشرية فهو ليس إبن فلان من الناس، وإنما هو إبن الإنسان عموماً. وقد ناب عن الإنسان في موته وفي حياته وفي كل ما كان مطلوباً منه... ولنبدأ أولاً بموضوع العماد، كمثال... معمودية يوحنا كانت للتوبة، والتوبة عمل يقوم به الخطاة وليس الأبرار. ويسوع المسيح القدوس البار، الذي هو وحده بلا خطية، لم يكن محتاجاً إلى التوبة، وبالتالي لم يكن محتاجاً إلى معمودية يوحنا. كان يوحنا صوتاً صارخاً في البرية ينادي: "توبوا لأنه قد أقترب ملكوت السموات " (مت3: 2). " إصنعوا ثماراً تليق بالتوبة " "كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقي في النار ". وهذا الصوت لم يكن بأي حال موجهاً إلى السيد المسيح ، الذي إعترف له يوحنا قائلاً: "أنا محتاج إلى أن أعتمد منك" (مت3: 14). ويوحنا كان يأتي إليه ليعتمدوا " معترفين بخطاياهم" (مت3: 6) والسيد المسيح لمتكن له خطية يعترف بها... فمادام لم يكن محتاجاً إلى التوبة، ولا إلى المعمودية، فلماذا ذهب إلى يوحنا؟ ولماذا إعتمد؟ لقد فعل ذلك " ليكمل كل بر "، لينوب عنا في إطاعة الناموس . إن البشرية فشلت في إرضاء الله الآب، فجاء الإبن يرضيه:"ابن الأنسان" وقد وقف كاملاً أمامه.

إن الخطية كانت لها نتيجتان: هلاك الإنسان، واغضاب قلب الله. وجاءالسيد المسيح ليصلح الأمرين معاً: جاء ليخلص الإنسان الهالك، إذ ناب عنا في الموت وفي دفع ثمن الخطية. . وجاء ليصالح قلب الله الغاضب بأن يقدم له ناسوتاً كاملاً يرضيه، وهكذا ناب عنا في تكميل الناموس وفي كل عمل صالح. قام بالعملين معاً: أرضي قلب الله بحياته الطاهرة، وأنقذ حياة الإنسان، بموته الكفارى. وكما ناب السيد المسيح عن البشرية في التوبة والعماد وتكميل الناموس، ناب عنها أيضاً في الصوم. لم يستطيع الإنسان أن يكبح جماح جسده، فأكل من طعام نهي الله عنه، فسقط. وجاء السيد المسيح ليصلح هذا الخطأ، فبدأ خدمته بالصوم حتى عن الطعام المحلل للجميع. نحن نصوم لنروض الجسد ونلجمه ونربيه. أما جسد السيد المسيح فلم يكن جامحاً حتى يكبح جماحه، فلماذا إذن صام؟ ونحن نصوم لكي تصفو الروح وتسمو. وروح في صفائها وسموها ليست في حاجة إلى صوم يوصلها إلى العلو الذي توجد فيه بطبيعتها. إذن لماذا صام؟ لقد صام عنا، أربعين يوماً وأربعين ليلة. وفي ذلك الصوم قدم لله الآب نيابة عنا جسداً طاهراً لا يخضع لشهوة طعام، إستطاع أن يبرهن عملياً على أنه: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (مت4: 4). لقد ناب السيد المسيح عنا في تقديمه للآب صورة الإنسان الكامل المطيع لوصاياه، وفي نفس الوقت قدم للبشرية الصورة الإلهية التي خلقوا على مثالها.

أتى المسيح ليُقَدِّم لنا الصورة الإلهية

لقد خلق الإنسان على صورة الله ومثالة (تك1: 27) في البر والقداسة والكمال، ولكنه شوه تلك الصورة الإلهية بخطاياه. لسنا نقول هذا عن مجموعة خاطئة معينة من الناس، وإنما عن الكل: "الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً، ليس لا واحد" (مز14: 3). وهكذا فقدت الصورة الإلهية من الكون... لعل تلك الصورة هي التي كان يعينها ديوجين الفيلسوف: [عن أي شئ تبحث]؟ فأجاب: [أبحث عن إنسان]!! إن الإنسان في وضعه الأصلي كصورة الله لم يكن موجوداً. فأتي السيد المسيح ليقدم هذه الصورة الإلهية، بمثال عملي أمامهم يرونه فيحاكونه... وهكذا قال لهم فيما بعد: "لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً" (يو13: 15). بهذه الصورة رآه القديس بطرس الرسول"تاركاً لنا مثالاً، لكي تتبعوا خطواته" (1بط2: 21). وبنفس المعني يقول القديس يوحنا الحبيب : "من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك يسلك هو أيضاً" (1يو2: 6)... قدم لنا صورة للإنسان المنتصر على الشيطان، ليعالج بها صورة آدم وحواء اللذين انهزاماً أمام إغراء الحية وإيحائها. وهكذا بدأ خدمته بأن سمح للشيطان أن يجربه، ليس مرة واحدة كما فعل مع أبوينا الأولين، وإنما ثلاث مرات (مت4) أعقبتها فيما بعد تجارب لا تعد. وإذ كانت كلمة الله ووصيته على لسان الإنسان الأول، ولكنها ليست ثابته في قلبه، ولا منفذه عملياً في حياته، كانت وصية الله وكلمته قوية وفعالة في فم السيد المسي، هزم بها الشيطان فلم يستطع أن يرد عليه.

وفي حياة السيد المسيح قدم لنا صورة الإنسان الكامل، الذي إستطاع أن يتحدى جميع مقاوميه قائلاً: "من منكم يبكتني على خطية" (يو8: 46). ويقول عنه القديس بولس إنه: "مجرب في كل شئ مثلنا بلا خطية" (عب4: 15). وقال عنه أيضاً إنه: "قدوس بلا شر ولا دنس قد إنفصل عن الخطاة، وصار أعلى من السموات" (عب7: 26).. لذلك عندمابشر العذراء بميلادة قال لها: "القدوس المولود منك..." (لو1: 35). هذا القدوس، إذ لم تكن في حياته خطية يموت بسببها، مات عن خطايانا نحن وإستحق أن يكون فادي البشرية. يمكننا أن نتأمل حياته المقدسة، ونأخذ لأنفسنا درساً من كل عمل ومن كل قول. كانت حياته نوراً يرشدنا إلى ما ينبغي أن نعمله. لذلك يسميه القديس يوحنا "النور الحقيقي الذي يضئ لكل إنسان" (يو1: 9). وإذ كانتخطية الأنسان الأولي هي الكبرياء، لذلك جاء السيد المسيح يلقننا درساً في التواضع.

أسباب أخرى لمجيء المسيح

لقد جاء السيد المسيح لكي يصلح التعليم الفاسد الذي وقع فيه الناس، ولكي يصحح المفاهيم الخاطئة للشريعة وللناموس وللمبادئ العامة في الحياة... ذلك لأن الكتبة والفريسيين كانوا قد شوهوا كل شئ، وفسروا الدين حسب مزاجهم الخاص، وأبطلوا وصيه الله بسبب تقاليدهم (مت15: 6). ووضعوا على أكتاف الناس أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل، وأغلقوا ملكوت السموات قدام الناس، فلا هم دخلوا، ولا جعلوا الداخلين يدخلون (مت23). من أجل ذلك وبخهم الرب يسوع وكشف رياءهم أمام الناس. وقال عن أمثال هؤلاء المعلمين الكذبة: "جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص" (يو10: 8). ذلك لأنهم غرسوا في أذهان الناس وقلوبهم تعاليم خاطئة ومفاهيم منحرفة. لهذا جاء االرب يسوع المسيح ليقدم مفاهيم جديدة. جاء يقلب تلك الأوضاع، ويقيم ثورة في الحياة الدينية. أو كما قال للناس جئت لألقي ناراً على الأرض. فماذا أريد لو أضطرمت" (لو 12: 49). جاء يشعل ثورة، ما قبلها ثورة، ولا بعدها ثورة... ثورة على الفهم الخاطئ للدين، والفهم الخاطئ للمبادئ. أقام السيد المسيح دولة جديدة من الفكر العالي السامي، لا يمكن أن يصل إليه تفكير البوذيين ولا تفكير الكنفوشيوسيين ولا تفكي البراهمة ولا تفكير الفلاسفة جميعاً. جميع فلاسفة العالم إنحنوا في خضوع وفي توقير أمام تعاليم المسيحية. وإذ بالمسيحية قد ارتفعت فوق كل تلك الفلسفات، وغلبتها جميعاً الفسلفة وغلبت القوانين، وغلبت الأنظمة الموجودة الجهلة الذين لا فكر لهم، ولكن لهم فكر المسيح. وإستطاع هؤلاء أن ينشروا تعاليم الرب في كل مكان: "مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2كو10: 5). حقاً لقد قدم السيد المسيح نوراً عجيباً للعالم.

نحن نفتخر ونفرح ونسر. يمتلئ فمنا بركة وتسبيحاً، لأن السيد الرب أعطانا تعليماً عظيماً من هذا النوع يسمو على كل تعليم آخر. صدقوني لو كانت المسيحية كلها، ليست فيها سوي هذه الآية الواحدة التي تقول: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت5: 44). لو كانت المسيحية لا تحمل سوي هذه الآية الواحدة، لكانت هذه الآية الواحدة تكفي... هاتوا كل تعليم الفلاسفة لا تجوده يوازي هذه الآية في سموها وعلوها وعمقها...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق