14‏/01‏/2010

الطائفية في مواجهة قانون الدولة


بقلم: نبيل عبدالفتاح
مقال لكاتب مسلم نقلا عن جريدة الأهرام المصرية
في 2010/1/14
عملية القتل العشوائي التي قام بها بعض الآثمين ضد بعض المصريين الأقباط في نجع حمادي‏,‏ تشكل نقطة تحول في مسار طويل من تأثير خطاب الكراهية ذي السند والتأويل الديني السلفي الوافد من الخارج‏,‏ ونمط من الاستعلاء العرقي والقبلي والعشائري المؤسس علي قانون القوة التقليدي

الذي يعتمد علي قاعدة الأكثرية‏/‏ الأقلية الديني‏.‏ العملية الإجرامية الأخيرة روعت ذوي الضمائر الحية واليقظة في مصر‏,‏ والعالم المتمدين‏,‏ بوصفها تعبيرا عن نمط إجرامي يحاول أن يصوغ من تأويلاته وتفسيراته الدينية‏/‏ العرقية‏,‏ وأهوائه مشروعية ضالة للفعل المجرم دينيا‏,‏ وقانونيا‏.‏ ان خطورة ما حدث تتمثل في عديد الاعتبارات التي يمكن رصدها فيما يلي‏:‏
‏1‏ـ الطابع العشوائي الذي يستهدف مواطنين أقباطا لا علاقة لهم مباشرة بأي سبب أو تبرير مدع به حول الأسباب والدوافع التي حركت المشروع الإجرامي للجناة‏.‏
‏2‏ ـ ان عملية نجع حمادي قامت بها عناصر‏,‏ المرجح حتي الآن أنها لا تنضوي تحت إطار تنظيمي مسلح وذي إيديولوجية سياسية دينية سندا وخطابا ولغة‏,‏ وإنما بعض من آحاد الجمهور‏,‏ حركتهم بعض أوهامهم وتصوراتهم العنيفة والدموية لاختيار يوم عيد وفرحة وتحويله إلي مأتم قومي يشمل كل أبناء الأمة من ذوي الإيمان العميق والروح المتسامحة مسلمين وأقباطا‏.‏
واقعة القتل العشوائي الأخيرة تختلف في أهدافها عن عمليات قتل السياح أو الاعتداء علي دور العبادة القبطية‏,‏ أو سرقة محال الذهب التي حركها وشرع لها فقه الاستحلال الوضعي الخارج علي قانون الدولة‏,‏ وراح يبحث عن قانون خاص يسوغ له الفعل الحرام إسلاميا‏!‏
كان هدف الجماعات الإسلامية الراديكالية ـ قبل المراجعات الفقهية ـ من عمليات القتل للأقباط‏,‏ هو محاولة إثبات عدم قدرة الدولة وأجهزتها علي حماية مواطنيها‏,‏ والتأثير علي السياحة والمناخ الاستثماري كله‏,‏ ناهيك عن تشويه الصورة الدولية لمصر في الأجهزة الإعلامية الغربية‏.‏ تراجع مفكري ومنظري الحركة الإسلامية الراديكالية عن بعض آرائهم وفتاويهم السابقة التي بررت هذا العنف ذي السند والتأويل الديني المتشدد فيما يشبه اعتذارا عما قاموا به‏,‏ وخيرا فعلوا‏.‏ واقعة القتل الآثمة الأخيرة تنطوي علي تحول نوعي تمثل في القتل علي الهوية والعلامة الدينية في مجتمعات لا تزال تسودها منظومات من القيم والأعراف شبه التقليدية‏,‏ شبه الحديثة والمبتسرة‏,‏ والتي يمكن لنا رصدها فيما يلي‏:‏

‏1
‏ ـ سيادة أشكال التضامن والتفاوض القبلي العائلي‏/‏ العشائري بكل ما تنطوي عليه من تعبئة وروح ثأرية‏,‏ واستعلاء مؤسس علي قانون الغلبة الأكثري ـ العددي ـ علي الأقباط‏,‏ وتداخل ذلك علي بعض من هوية دينية وعرقية تشكل المخيال شبه الجمعي لتركيبة القوة التقليدية وتوازناتها‏.‏
في هذا الإطار يسهل استنفار الحمية القبلية والعائلية في دعم وحماية الجناة في قضايا القتل‏,‏ خاصة إذا كان ثمة تبرير وتأويل ديني‏/‏ عرقي‏/‏ اجتماعي لجرائم القتل والحرق والضرب والسرقة‏.‏ ولا شك أن هذا التوجه يدفع بعض أعضاء البرلمان والمجالس الشعبية المحلية‏,‏ وأجهزة الإدارة والحكم المحلي‏,‏ للضغط علي الأجهزة الأمنية وجهات التحقيق لإيقاف الماكينة القانونية والأمنية عن العمل‏,‏ وضبط الجناة‏,‏ والتحقيق معهم‏,‏ وإحالتهم للقضاء‏,‏ وإنزال قاعدة القانون الجنائي والمدني علي منتهكي أحكامهم‏.‏
‏2‏ ـ ميل غالب الجناة إلي استخدام الغطاء الديني لوقائع يومية منتجة للنزاعات بين آحاد الناس ـ حول الملكية والري الزراعة والديون والعلاقات الحميمية‏,‏ والعاطفية بين متعددي الانتماء الديني‏..‏ إلخ ـ‏,‏ في محاولة منهم لاستبعاد حكم القانون والمساءلة الجنائية والمدنية عن سلوكهم الإجرامي‏.‏ يترتب علي هذا التوجه في إدارة الجناة وعائلاتهم للقضايا الجنائية إلي دفع أعضاء البرلمان والمحليات ـ لاعتبارات انتخابية ومصلحية محضة ـ إلي التدخل لمناصرة المعتدين الخارجين علي القانون‏,‏ باسم الدين الإسلامي والقبيلة والعائلة‏,‏ والأخطر اللجوء إلي القانون العرفي ـ الديات والتعويضات المالية عن الأضرار والخسائر والقتلي والجرحي‏,‏ وهو ما يناهض قانون الدولة الحديث وسيادته وثقافته المعاصرة‏,‏ ويضعف من فاعليته وسطوته‏.‏
‏3‏ ـ من الملاحظ أن أحد أخطر تبريرات اللجوء إلي القواعد العرفية و‏'‏مجالس العرب‏'‏ بديلا عن الأجهزة القضائية والقانونية للدولة‏,‏ هو أن هذه الآلية تؤدي إلي احتواء النزاعات‏/‏ الطائفية‏,‏ والحيلولة دون امتدادها إلي مناطق ومجتمعات قروية أو‏'‏ مدينية '‏ أخري‏.‏
‏4-‏ ثمة من يري في تبرير اللجوء إلي قانون الأعراف والمجالس العرفية إلي أن العرف جزء من القانون‏,‏ وهو أمر يجافي حقائق القانون الوضعي الحديث‏.‏
العرف يشكل أحد مصادر القانون المدني والتجاري في حال غياب نص قانوني ينظم علاقة أو مركزا قانونيا ما‏,‏ وهو أمر تجاوزته المنظومات القانونية الحديثة والمعاصرة التي باتت تنظم غالب العلاقات القانونية والتجارية والمدنية‏...‏ إلخ‏.‏ الأخطر أن قانون العقوبات والإجراءات الجنائية‏,‏ هو الذي ينظم مسألة التجريم والعقاب والتحقيقات التي تجريها النيابة العامة أو المحاكم الجنائية‏,‏ ولا مجال للقانون العرفي الذي ينظم الديات والتعويضات عن جرائم قتل وسرقة وحرق وهدم‏...‏ إلخ‏,‏ يقوم بها الجناة في المنازعات التي يضفون عليها التبريرات الدينية‏/‏ العرقية‏.‏ من ثم لا مجال للقول بأن العرف هو جزء من قانون العقوبات علي نحو ما يذهب إليه بعضهم لتبرير إفلات الجناة والقتلة من سلطان القانون الجنائي المصري وعقوباته‏.‏
‏5‏ ـ خطورة ما حدث في نجع حمادي يتمثل في نمو وامتداد ثقافة الكراهية ونفي أخوة المواطنة القبطية في إطار الأمة المصرية الحديثة‏,‏ لمصلحة مفاهيم وتأويلات وآراء سلفية وضعية قديمة خارجة من فقه سلفي قديم فارق أسئلته وزمنه وسياقاته بل وصل الامر إلي التهجم علي المؤسسة الأزهرية العريقة ورموزها بغير الحق‏.‏ إن بعض وعاظ الفضائيات من الغلاة يحاولون من خلال سياسة الهجوم والافتراء علي الأزهر وبعض علمائه‏,‏ أن يروجوا وعلي نحو شعبوي مقولاتهم وفتاويهم السلفية التي يعاد إنتاجها من الأسئلة‏,‏ والفتاوي القديمة التي كانت نتاجا لعصرها وأسئلته‏,‏ ومحاولة إضفاء هيبة وقداسة وضعية‏/‏ بشرية علي هذا النمط من الفتاوي القديمة التي كانت استجابة لزمانها ومكانها وحاجات البشر آنذاك‏.‏

‏6‏ ـ ان واقعة القتل العشوائي‏,‏ هي تعبير عن تراجع قانون الدولة‏,‏ وضعف وظائفه الردعية والمنعية لدي جمهور المخاطبين بأحكامه وقواعده لمصلحة قانون القوة التقليدي‏,‏ وغلبة نزعة ثأرية‏/‏ دينية مترعة بالكراهية والرغبة العمياء في إضعاف قانون الدولة الحديثة‏,‏ بل واستبعاده من التطبيق من خلال أشكال الالتفاف المختلفة علي قواعده‏,‏ سواء عبر آليات التبرير الديني‏/‏ العرقي‏/‏ الاجتماعي الوضعي‏,‏ أو ميل بعض الأجهزة المنوط بها تطبيق القانون إلي تجاوزه بدعوي كاذبة هي متطلبات الاستقرار‏,‏ وعدم انفجار الموقف الأمني وخروجه عن نطاق السيطرة والضبط‏.‏
‏7‏ ـ يبدو أن ثمة تمددا لثقافة التحيز والتمييز الديني‏/‏ العرقي بدأت في السيطرة علي ذهنية بعض فئات الموظفين العموميين وأجهزة الدولة‏,‏ بل وفي بعض مشروعات القطاع الخاص‏.‏ لا شك ايضا أن العلامات الدينية تشكل بيئة تمييزية لأنها حكر علي طرف دون طرف آخر‏,‏ أو لدي بعض المصريين المسلمين والأقباط في المنازل‏,‏ وفي المصاعد الكهربائية‏..‏ إنها علامات وعناصر رمزية‏,‏ تدفع لتوليد روح انقسامية وتمييزية بين أبناء الوطن‏/‏ الأمة الواحدة‏.‏
‏8‏ ـ ضعف هيبة وردع قواعد القانون الحديث هي تعبير عن ارتخاء قبضة بعض أجهزة الدولة في تفعيل قواعده في التطبيق‏,‏ والسماح بالتشكيك في قانون الدولة لمصلحة قوانين الأعراف‏,‏ ومحاولات جحد شرعية القانون الرسمي باسم تأويلات وخطابات دينية متشددة ومتطرفة‏.‏
‏9‏ ـ ان المدخل الفعال لمواجهة جذور‏'‏ الطائفية‏'‏ يتمثل في تجديد وإصلاح النظام الدستوري والقانوني‏,‏ من خلال رفع كل النصوص المخالفة لمبدأ المساواة والمواطنة‏,‏ وضرورة رفع بعض القيود التي تميز بين المصريين علي أساس الانتماء الديني والعقدي في مجال الحقوق والواجبات‏.‏ ان السماح بقانون القوة والفساد والأعراق يؤدي إلي إضعاف قانون الدولة‏,‏ ومن ثم تجريح الدولة الحديثة ذاتها‏,‏ حينا باستبعاد أحد أبرز معالم إنتاجها القانوني في الضبط الاجتماعي‏,‏ ومن ناحية ثانية باللجوء إلي نقيض قانون الدولة الرسمي‏,‏ بما يؤدي إلي المساس بهيبة الدولة والقانون والنخبة السياسية الحاكمة‏.‏
ثمة احتياج عميق وموضوعي لإصلاح النظام القانوني نحو دعم حقوق المواطنة والحقوق والحريات العامة‏,‏ والشخصية‏,‏ من خلال القوة المشروعة والحاسمة لأجهزة الدولة‏,‏ من أجل تحرير المجالين العام والخاص من الهيمنة الرمزية للأيديولوجيا السياسية‏/‏ السلفية‏,‏ واحتلال جماعاتها علي اختلافها للشارع والمركبات والفضائيات‏...‏ إلخ‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق