مبارك هو الرب الإله، الذي تنازل فكلمنا، نحن التراب والرماد. ومبارك هو لأنه أمر أنبياءه القديسين أن يسجلوا لنا كلامه، فبقى محفوظاً لنا في الكتاب المقدس منفعة لنفوسنا ونوراً لطريقنا.
الكتاب المقدس هو كتاب الكتب أو هو الكتاب.
فعندها يقال " الكتاب " فقط، إنما يقصد به كتاب الله، كلامة الذي يتحدث به إلينا. الذين نطق به روح الله القدس في أفواه أنبيائه القديسين. " لأنه لم تأت نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 1: 21). لذلك فإننا في قانون الإيمان، نقول عن الروح القدس " الناطق في الأنبياء ". وكما يقول الرسول " كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر" .2تيمو16:3
الكتاب المقدس هو رسالة مقدمة إليك، ومن ذا الذي لا يفرح برسالة الله؟!
القديس أنطونيوس الكبير وصلته رسالة ذات يوم من الامبراطور قسطنطين . ففرح تلاميذه جداً، ولكن القديس ترك الرسالة جانباً، فتعجب تلاميذه وتحمسوا لقراءة الرسالة. فقال لهم " لماذا تفرحون يا أولادى هكذا لرسالة وصلتنا من إنسان؟ وهوذا الله قد أرسل لنا رسائل كثيرة في الإنجيل المقدس، ونحن لا نقابلها بمثل هذا الفرح والحماس؟! ثم بعد ذلك قرأ خطاب الامبراطور وأرسل إليه يباركه.
و أنت: إن وصلك خطاب من إنسان عزيز عليك، ألا تفرح به، وتقرؤه مرات.. ألا بليق بك أن تفعل هكذا برسالة تصل إليك من الله..
رسالة الله المرسلة إليك، التي نطق بها الروح، وتكلم بها الأنبياء مسوقين بالروح، هى كلمة مملوءة روحاً، نفهمها بالروح ونحياها. هى كما قال الرب:
" الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة " (يو 6: 63)0 إنه غذاء لأرواحنا تتغذى به فيكون لها حياة..
و كما قال الرب في سفر التثنية (تث 8: 3)، وردده السيد المسيح " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله " (مت 4: 4). لأن الخبز هو طعام الجسد. والإنسان ليس مجرد جسد، بل له روح. والروح تتغذى بكلام الله الذي هو في الكتاب المقدس.
ففى الكتاب المقدس غذاؤنا اليومى، لأننا نحيا " بكل كلمة تخرج من فم الله ". إنه خبز الحياة وغذاء الروح.
و لعله بعض ما تقصده عبارة " خبرنا الذي للغد، أعطنا اليوم "
إن رجل الله يفرح بالكتاب، " وفى ناموس الرب مسرته " (مز1) وفى ناموسه يلهج نهاراً وليلاً. وعبارة " مسرته " تعنى أن وصايا الله ليست عبئاً عليه، وليست ثقيلة، وليست فرضاً، إنما هى سبب فرحه..
وعلاقته بالكتاب دائمة ومستمرة، يلهج فيه النهار والليل.
ولا تظن أن هذه قيلت للرهبان وللعباد فقط، بل للجميع. قالها الرب لقائد جيش مثقل بالمسئوليات، يقود مئات الآلاف من الشعب.. ففى وصية والرب ليشوع بن نون خليفة موسي، يقول له الرب: "لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً لكى تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه.
حينئذ تصلح طريقك، وحينئذ تصلح طريقك، وحينئذ تفلح " (يش 1: 8). تصوروا قائداً مشغولاً جداً كيشوع، وعليه كل مسئوليات الحكم الضخمة: ومع ذلك يقول له الرب " لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك "؟!..
ليس هذا الكلام موجهاً إلى يشوع وحده، بل إلى كل واحد منا. ولذلك يقول المزمور الأول عن الرجل البار إنه " في ناموس الرب مسرته، وفى ناموسه يلهج نهاراً وليلاً " (مز 1: 2).
داود كان ملكاً وقائداً ورب أسرة كبيرة وصاحب مسئوليات خطيرة. ومع ذلك يقول " ناموسك هو تلاوتى " " شريعتك هو لهجى ". ويتحدث عن علاقته بناموس الله وشريعته فيقول " سراج لرجلى كلامك، نور لسبيلى "، " فرحت بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة " " كلامك ألذ من العسل والشهد في فمى "..
من أين كان لدواد وقت يتلو فيه في كلام الله النهار والليل، وصبح كلمات الله هى درسه وتلاوته ولهجه؟!
إن آبائنا القديسين كانوا يحفظون كثيراً من ايات بل واسفار الكتاب المقدس عن ظهر قلب، وكان الكتاب يظهر في حياتهم. يا ليتنا نقيم مسابقات لحفظ الكتاب المقدس واياتة. وكما يقول قداسة البابا شنودة الثالث:
" احفظوا الانجيل، يحفظكم الإنجيل، احفظوا المزامير، تحفظكم المزامير" .
و في حفظ الآيات يمكن أن نرددها في داخلنا، ونتأمل معانيها وأعماقها في كل مكان، في البيت، وفى العمل، وفى الطريق، ووسط الناس. وهكذا نصادق الكتاب وكلماته، وتكون لنا نعم الرفيق..
حفظ الآيات وترديدها وتأملها فضيلة، والعمل بها فضيلة أعظم.
ولذلك قال السيد المسيح " من يسمع كلامى ويعمل به يشبه إنساناً بنى بيته على الصخر ". ويقول الكاهن في أوشية الأنجيل "فلنستحق أن نسمع ونعمل باناجيلك المقدسة "..
عبارة " فلنستحق " هنا لها معنى عميق، لأنه من نحن حقاً، حتى نستحق أن نسمع كلام الله ونؤتمن على وصاياه؟!
أحب أن أرى أناجيلكم الخاصة وقد ظهر عليها الاستعمال.
تظهر قديمة ومخططة، وواضحة قراءتكم فيها واستعمالكم لها.. كلها ذكريات وتأملات، دخلت العقل والقلب وأصبحت جزءاً من الحياة.
اقرأوا وتأملوا. اخلطوا إلى أعماقه.
لا تكتفوا بالمعنى القاموسى.. وبالتأمل ستجدون الآية الواحدة،و كأنها بحر واسع لا حدود له، كما قال داود: " لكل كمال رأيت منتهى، أما وصاياك فواسعة جداً ".
قال هذا داود، في وقت لم تكن أمامه سوى تسعة أسفار تقريباً، ونحن معنا الكتاب كله، بما في ذلك العهد الجديد وجميع الأنبياء. وكل كلمة فيه مملوءة من العمق وكنز للتأمل.
الكتاب المقدس ليس فقط مصدر تأمل، إنما أيضاً مصدر عزاء
فى كل حالة من حالات الإنسان النفسية، يجد في آيات الكتاب ما يريح قلبه ويشبعه
فى حزنه يجد كلمة عزاء، وفى فرحه يجد فيه سلاماً، وفى يأسه يجد آيات عن الرجاء..
الكتاب المقدس، كلماته مؤثرة. قد تقرأ بعضها وتقول لله " لا شك يا رب أنك قلت هذا الكلام من أجلى ".
لذلك خذ كلمات الله كأنها رسالة شخصية موجهة إليك.
إليك أنت بالذات، و" من له أذنان للسمع فليسمع، ما يقوله الروح القدس للكنائس ". من أجلك أنت بالذات نطق الروح للكنائس ". من أجلك أنت بالذات نطق الروح على أفواه الأنبياء..
إنها رسالة أرسلها إليك أنت، وليس إلى أهل رومية أو أهل كورنثوس.
الكتاب المقدس ليس مجرد رسالة عزاء، إنما أيضاً سلاح:
كل خطية، يمكن أن تصنع أمامها وصية، فنجد أنها قد ضعفت أمامك، وأخذت أنت من الوصية قوة.. ما أقوى كلمة الرب، حتى أن لفظها صغير.
" كلمة الله حية وفعالة، وأمضى من كل سيف ذى حدين " (عب 4: 12).
الشيطان في التجربة على الجبل، ولم يستطع أن يحتمل كلمة الله، ولم يستطع أن يرد على شئ منها..
و كلمة الرب شاهدة علينا في اليوم الأخير، إن لم ننفذها.
لو لم نعرف، لكان لنا عذر، ولكن أى عذر لنا، وهوذا كلام الله أمامنا يوضح لنا كل شئ؟! وكلام الله لم يكن مطلقاً لمجرد المعرفة، وإنما للحياة.. لذلك فلنعمل به..
إن كلمة الرب ستطاردنا في كل مكان نذهب إليه، ترن في آذاننا، وتتعب ضمائرنا إن لم نعمل بها
و لن تجدينا مطلقاً تبريرات العقل الخاضع لشهوات النفس..
و في نفس الوقت فإن كلمة الله في أفواهنا هى دليل على روحاتنا وعلى انتمائنا الدينى.
هناك أشخاص يتحدثون، فتمتلئ أحاديثهم بكلام العالم. وهناك من يتحدث، فتظهر في كلامه لغة الكتاب. من كثرة ترداده لألفاظ الكتاب، اعتاد أسلوبه، وتأثر بلغته، لذلك " لا يبرح سفر الشريعة من فمه ". وكل من يسمعه، يقول له "لغتك تظهرك" (مت 26: 73).
فلنعود أطفالنا استخدام آيات الكتاب، بأن يقولوا آية على كل ما يرونه: كتاب، شجرة قلم، أرض، باب، مائدة.. كل ما يقع تحت بصرهم..
الطفل الذي يتعود هذا، تدخل لغة الكتاب في الفاظه وحياته. ولذلك لا يعرف لغة الخطاة، ولغة العالم، ولا يخطئ..
قال داود "خبأت كلامك في قلبى، لكيلا أخطئ إليك".
إن الكلام يجب أن يوضع في القلب، في مركز العاطفة والحب والمشاعر، وليس فقط في الفم، أو في العقل في موضع المعرفة فقط. وحينما يكون كلام الله في القلب، حينئذ لا نخطئ، لأن
وصية الله امتزجت بعواطفنا. ما أجمل قول الإنجيل عن مريم العذراء إنها " كانت تحفظ كل هذه الأمور متأملة بها في قلبها ".
من ضمن الأشخاص الذين أخطأوا، لأنهم خبأوا كلام الله في عقولهم وليس قلوبهم، امنا حواء: سألتها الحية من وصية الله، فأجابت بحفظ وتدقيق شديد، وفى نفس المناسبة كسرت الوصية وأخطأت.
أقراو الكتاب المقدس. وثقوا أنكم في كل قراءته ستجدون شيئاً جديداً. فكلمات الله غنية ودسمة، وهى ينبوع للتأملات لا ينضب لذلك نرد أن داود النبى إذ اختبر هذه الحقيقة يقول:
" لكل كمال رأيت منتهى، أما وصاياك فواسعة جداً " (مز 118).
أى أم كل كمال له حدود، أما وصية الله فلا حدود لعمقها. فكما أن الله غير محدود، كذلك عمق كلماته غير محدودة. مهما تأملتها، تجد أن التأملات تفتح أمامك آفاقاً لا تجد.. هى جديدة باستمرار، جديدة على ذهنك وعلى فهمك. لهذا قال النبى " وجدت كلامك كالشهد فأكلته ".
و في ذلك يقول داود النبى " ناموس الرب كامل، يرد النفس. شهادات الرب صادقة، تصير الجاهل حكيماً. وصية الرب مستقيمة، تفرح القلب. أمر الرب طاهر ينير العينين.. أحكام الرب حق، عادلة كلها.. أشهى من الذهب والأبريز الكثير الثمن. وأحلى من العسل وقطر الشهاد " (مز 19).
ثق أن كل كلمة تقرأها من الكتاب سيكون لها تأثيرها فيك وقوتها وفاعليتها دون شرح ودون وعظ.
يكفى أن تذكر كلمة الله، لكى يقتنع الإنسان بدون نقاش وبلا جهد كثير. يكفى أن تذكر كلمة الله، لكى يشعر الإنسان بحضور الله في الوسط وبنعمة خاصة. وهذه الكلمة تنير له الطريق.
إن الروح القدس الذي أوحى بالكلمة، هو يعطى قوة لتنفيذها. ولنتذكر أن الشعب لما سمعوا الكلمة في يوم الخمسين، قيل عنهم إنهم " نخسوا في قلوبهم " (أع 2: 37)0
و قال القديس بولس لتلميذة تيموثاوس" وأنت منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص " (2تى 3: 15).. يجد فيها الإنسان الإرشاد الإلهى، كما قال داود النبى
" سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى " بل قال أكثر من هذا:
" لو لم تكن شريعتك هى تلاوتى، لهلكت حينئذ في مذلتى " (مز 119).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق